مسلسل اسمه حياة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:35 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مسلسل اسمه حياة

نشر فى : الأربعاء 20 مارس 2019 - 9:40 م | آخر تحديث : الأربعاء 20 مارس 2019 - 9:40 م

لدى اعتراف: أحب كثيرا استراق السمع فى المقاهى والأماكن العامة إلى غرباء من حولى، فألتقط من هنا قصة ومن هناك حكاية. أشعر أن الكلمات أشخاص لا أعرفهم تتعمد أن تتحرك باتجاهى، تبحث عن آذان صاغية أملكها. قد ألتقط جملا بأكملها أو نثرات أعيد تشكيل قصص كاملة منها. فى الحقيقة أنا لا أغير من جلستى ولا أتعمد الاقتراب ممن أسمع أحاديثهم، تصلنى كلمات قد لا تكون مترابطة، أشعر بتغيير النبرات، أسمع ضحكة وأحس بدمعة تنقل لى مزاج صاحبها. غالب الظن أن ما يصلنى هى ذبذبات من أصحاب الكلمات، طاقتهم السعيدة أو الحزينة، ملامح وجوههم التى تتغير فى كل مرة ألتفت فيها إلى مصدر القصص.
***
عربة المترو فى القاهرة من أكثر الأماكن اكتظاظا بالكلام والقصص، تعلمت فيها الكثير عن الحياة القاهرية وعادات الناس من خلال أحاديث لا تنتهى من حولى عن العمل والمدرسة والأطفال والجامعة والغلاء المعيشى وحفلات الخطوبة، تفاصيل تدخلنى فى حيوات من المستحيل أن أتسلل إليها خارج عربة المترو. تفاصيل حميمة تهمس بها إحداهن فى أذن جارتها فتلتقطها أذنى دون إذنها.
***
المقهى، مكانى الثانى تفضيلا لحياكة قصص يعطينى أحدهم بعض تفاصيلها فقط. أتعامل معها كالأحجية، كتلك الألعاب التى يشترط فيها أن نلعب دور مفتش يعيد تركيب جريمة بحثا عن الجانى. فى حالتى، أعيد تركيب قصة حب بحثا عن تلك اللحظة التى يتغير فيها مسار شخصين. لا أعرف حقيقة القصة فمعظمها يحدث فى عقلى وليس فى حديث قربى. أنظر خلسة إلى وجه السيدة مصدر الكلمات حتى أطبق الصورة على القصة. فى عينيها حزن سرعان ما يختفى حين تشرح لصديقتها شيئا لا أسمعه. أتخيل طبعا معظم التفاصيل، إذ إن حياكتى للقصة تشبه حالة من يعطى للخياط أزرارا ملونة ويطلب منه حياكة ثوب مزركش دون أن يزوده بالقماش. أنا الخياطة، عندى تفاصيل ملونة كثيرة على أن أنسج حولها ثوبا يظهر جمالها.
***
تستهوينى تقاطعات تحدث بين الناس بشكل غير متوقع، كأن يصل إلى اسم مألوف فى حديث يدور قربى بين أشخاص لا أعرفهم فأفهم مثلا أن الشخص يدرس حاليا فى جامعة فى فرنسا، وقد عرفته منذ سنوات بعيدة طالبا مشاكسا مشاغبا شديد الجاذبية. أحب مسلسلات الحياة، بتفاصيلها والتواءاتها غير المتوقعة. أفليست الحياة مسلسلا؟
مسلسل اسمه حياة، كيف يمكن أن أكتب سيناريو يحمل فى صفحاته مشهدا حول كل كلمة التقطتها بالصدفة فى مكان عام؟ أتخيل قصة نسجت تفاصيلها من مشاعر وعواطف وصلتنى من أشخاص مجهولين فى عربة نقل عام أو فى مقهى فى مطار ما. قد تكون شخصيات الحياة أكثر قابلية للتقاطع والتلاقى مما نشاهده فى المسلسلات. أنا أكتشف بشكل دائم تداخل دوائر لا أتخيل أن بإمكانها أن تلتقى. يقال إن العالم أصبح أصغر مما كان عليه قبل الثورة الرقمية وقبل وسائل التواصل الاجتماعى. ربما سهل هذان التغييران من إمكانية الناس على التواصل فعلا، لكنى بت متأكدة أن الالتقاء أسهل مما نتخيل، إذ إننى أكتشف دوما قوة الصدفة فى خلق تقاطعات حيث لا نتصور ذلك ممكنا.
***
أن أكون فى مدينة جديدة لا شبكة علاقات لى فيها، فأمضى أمسية فى مكان يعزف فيه ثلاثة موسيقيين شباب قدودا حلبية. أنظر حولى فأرى وجوها لا أعرفها ترتدى جميعها التعبير ذاته، مزيج من الحنين والشجن والسعادة بأنهم موجودون هنا مع غيرهم ممن يشعرون بالحنين والشجن والسعادة. ما الرابط بينهم؟ ربما الكثير، ها أنا أبدأ بالحياكة. سوف يكتشف الشاب الأشقر أنه حين عاش فى سوريا ليتعلم اللغة العربية، فقد استأجر بيتا فى الجزء القديم من المدينة، حيث تعيش خالة لاعب البزق، حتى أنه، أى الشاب، كان قد التقى بوالدة الموسيقى حين كانت تزور أختها. سوف أكتشف أيضا أن لاعب القانون متزوج من أستاذة الأدب المعاصر فى جامعة درس فيها رجل يجلس بجوارى، حتى أنهم ربما كانوا فى الفصل ذاته مرة أو مرات. أربط بين الأشخاص والقصص بفضل كلمات معدودة تصلنى بين نغمات أردد أغانيها، تختلط على التفاصيل لا سيما حين يغنى كل من فى المكان مع الموسيقيين «عالروزانا عالروزانا حبى معاكم راح»، وهى بنظرى إحدى الأغنيات التى نجحت فى كل محاولات التوزيع الموسيقى، إذ من الصعب ألا تحرك الروزانا أى جمهور.
***
كم هى هشة الحياة، بكل تضاريسها وقسوتها، ها هى تذوب أمام أغنية وتنكسر بسبب رحيل. الرحيل: أقسى ما فى الحياة. رحيل شخص، الفراغ الذى يتركه، صوته ورائحته، مشاريع كثيرة كان ينوى أن يقوم بها، تتراكم على أرض الغرفة من بعده ثم تتبخر فلا يبقى سوى كلمات تصلنى وأنا أقف فى مطبخ ملىء بالمعزيين أكتشف أن حتى الغرباء منهم متصلين عن طريق الصديق الذى تركنا. أسمع بعض بكاء أمه وضحكة أصدقاء يحاولون التمسك بجمال ذكراه بدل التحسر على موته. ربما الحياة مسلسل تبدو حلقاته غير مترابطة، ثم يأتى المشهد الأخير ليضع كل تفصيل فى محله ويكتشف المشاهد أن لا صدفا فى الحياة، فقد كتب أحدهم مسلسلا وحاكت إحداهن ثوبا مزركشا ربطنا جميعا.
كاتبة سورية

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات