نُقطةُ نِظام - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:44 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نُقطةُ نِظام

نشر فى : الجمعة 20 مارس 2020 - 10:40 م | آخر تحديث : الجمعة 20 مارس 2020 - 10:40 م

في ميدان مُصغَّر بالحيّ العتيق، ومع اختناق المَداخل والمَخارج التي كانت تشهد إلى وقتٍ قريبٍ جَحافل مِن التلامذة قاصدين مدارسهم في ساعات الصباح المبكرة، وجموعًا من صغار الموظفين وكبارهم متوجهين إلى أعمالهم؛ ظهر رجل متوسط العمر، واقفًا على إحدى النواصي، أشعث نابت الذقن، على جسده رداء بال، وفي فمه صفارة؛ ينفخ فيها بين الحين والآخر، ويلَوّح بيده لتمُرَّ السياراتُ، بينما يستوقف الاتجاهاتَ المُتعارِضة حتى لا يتعطَّل انسيابُ المرور.
***
في الانطباعات الأولى التي تكوَّنت لدى مَن مرّوا به، بدا الرجلُ مُتشردًا ساقته قدماه إلى هذه البقعة المتوترة عن غير قصد، فاستطاب البقاءَ فيها ووجد ما يفعل؛ والعجيب أن فعلَه لم يُقابَل بالاستهجان المُعتاد والتبرُّم، بل بامتثال كامل لإشاراته واحترام لصفارته. يبطئ السائقون مِن سرعتهم ما رأوه واقفًا يمارس مُهمَّته، ويطيعون رأيَه المُعلَن بوضوح؛ فإذا رفع ذراعَه توقفوا وإذا راح يؤرجحها يمينًا ويسارًا؛ انطلقوا في طريقهم واثقين مِن قُدرته على تأمين التقاطعات وفضّ الاشتباك.
***
تدريجيًا؛ حاز الرجل شعبية بين سكان المنطقة ومن يطرقونها بصورة يومية، إذا غاب سألوا عنه، وإذا تأخر ارتبك السائقون وتداخلت الاتجاهات، وصنعت السيارات المتلاحمة مشهدًا عجيبًا، وكأنها تعابث بعضها في ساحة الملاهي ولا يفوتها التصادم والاحتكاك. على كل حال؛ نادرًا ما يختفي الرجل الأشعث الذي يبدو مُدرِكًا لجسامة دوره وأهميته، لا يكلُّ مِن مُمارسة عمله عند الناصية ولا يَمَل، لا يُغيّر البقعةَ التي اختارها ولا ينتقل إلى مَخرج شارع مُقابِل أو مَدخل آخر. مَوْضِعه مُحدَّد وصفارته حاضرةٌ؛ تنَبّه من يكتشفون وجوده للمرة الأولى، وتحذّرهم مِن خَرق النظام.
***
يختصر التنظيمُ الجيد ولا شكَّ من الجُهود التي تُبذَل لاحقًا للحَدّ مِن تبعِات الفوضى، وآثارها على المستويات كافة؛ إذا اعتاد المرءُ على تحديد هدفه ووَضْعِ نظامٍ مُحدَّدٍ للاستفادة بوقته؛ أنجز، وإذا درجَ على احترامِ الضوءِ الصادر عن الإشارة في الشارع؛ أنجز، وإذا عين أمكنة ثابتة لحفظ أغراضه؛ أنجز، وإذا التزم الوقوف في الصفّ انتظارًا لدوره في مصلحة خاصة أو حكومية أو غيرها؛ أنجز، وكفى نفسه والمنتظرين شرَّ المشاحنات.
***
تفتقر الصفوةُ المَوضوعةُ صُدفة تحت راية الجماعة الثقافية إلى أي صورة مِن صور التنظيم، مثلها مثل فئات وجماعات متنوعة تنوء بها الساحة، ويتصرَّف أعضاؤها بصورة هزلية مُنعزِلة عن الآخرين؛ لا يملكون في بناء مواقفهم خطواتٍ واضحة، ولا يكوّنون في القضايا الكبرى آراءً مُتمَاسِكة، كما لا يتبعون نظامًا منطقيًا في تأييد أو مُعارضة. يسيرون بعشوائية ويفرزون نتائج لها السمة ذاتها، ويفتقدون في وجودهم إلى أدنى درجات اللياقة والنظام.
***
الأمهات هُن أكثر مَن يعبأ بترتيب الأشياءِ على العموم، وأكثر مَن يهتمّ بوضع نظامٍ صارم. هُن أيضًا الأكثرَ قُدرة على فرضِ قواعد ثابتة؛ يُعاقَب تاركُها ولو بعبارات قصيرة من اللوم والعتاب. تدفعهن صعوباتُ الحياةِ إلى مُحاولة ترشيد الطاقة للضرورات، فإذا غابت النظرةُ المُتحفزّة وتراخت، وتراجع العزمُ على تكرار التوبيخ؛ ما وجدن مُتسعًا مِن الوقت لإزالة ما تبعثر هنا وهناك، وما ضلَّ مكانَه واختفى عن العين واستحكم إليه الاحتياج.
***
أذكر إلى الآن مُعلمة الرياضيات التي اعتادت- ما علا هرج الطالبات- أن تنقُرَ على مكتبها الخشبيّ وهي تردد: "نقطة نظام". لم نفهم صغارًا ما هي النقطةُ، ولماذا نقطة واحدة، وكيف تكون للنظامِ نقطة؟ مع هذا كنا نلتزم الصمتَ فورًا، دون أن يرتفع صوتُها أو يتعدى قَولُها الكلمتين الراسختين.
***

ثمَّة تنظيمٌ غير مَسبوق لجهود مُكافحة العدوى في مُختلف أرجاءِ الكوْكَب. إرشاداتٌ وتعليماتٌ تُعطَى للمواطنين، مُستوصفات ومستشفيات خاصة تفتح أبوابَها للجميع، مبانٍ لا علاقة لها بحقلِ الطِبّ وأهله وبالمرضى؛ تتحول إلى أماكن رعاية وتقدّم خدمةً نوعية. إجراءات مُتعدّدة تُتَّخذ بهِمَّة وحماسة؛ إغلاق لأماكن التجمُّعات العامة، وعزل لمُخالطي المُصابين، نشرات تلفزيونية لا هم لها سوى متابعة الشاردة والواردة، وتقصّي أخبار الجائحة التي ملكت على الناس قلوبهم وأقعدتهم في البيوت. التنظيم دقيقٌ والاهتمام مُكّثَّف والاستعدادات وافرةٌ، والرسائل المَبثوثة تنشر الفزعَ بجدارة إلى أن ينزاح الستار عن العلاج المُرتقب ويُباع بمليارات الدولارات ويتكالب عليه الموبوؤن؛ وتلك علامة من علامات النجاح.
***
تظهر نقطةُ النظام في مناسبات بعينها وتتوارى فيما عداها، تجد الإمكانياتِ والأدواتِ اللازمة مرَّات، وتفتقر إليها في أخرى، يتم فرضُها بضراوة عند الحاجة وإسقاطُها من الحسبان ما قُضيَ الأمر.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات