الافتقار لنموذج للتعليم العالى المصرى - معتز خورشيد - بوابة الشروق
الأحد 7 يوليه 2024 1:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الافتقار لنموذج للتعليم العالى المصرى

نشر فى : الأربعاء 20 أبريل 2016 - 10:05 م | آخر تحديث : الخميس 21 أبريل 2016 - 11:55 ص
اتفقت معظم الدراسات العالمية فى مجال التعليم الجامعى على أن تنوع نظم التعليم العالى وبرامجها الأكاديمية يمثل إحدى السمات المميزة للألفية الثالثة. وهذا التنوع يتضمن النظم والبرامج الأكاديمية وأنماط التعليم والتعلم وأساليب التدريس والتكنولوجيا المستخدمة والدور البحثى للجامعات وهيكل ملكية الأصول. وقد صاحب هذا التنوع فى النظم والبرامج تباين مماثل فى أنماط التمويل وأساليبه. وقد أكد العديد من هذه الدراسات التحليلية أن تنويع مصادر تمويل الجامعات العامة يمثل ضرورة يفرضها الوضع الراهن لنظم التعليم العالى ويُعد أحد متطلبات تحقيق الاستدامة المالية. كما تفيد المؤشرات الدولية للتعليم العالى – فى بداية الألفية الثالثة – أن معدلات التسجيل فى النظم غير الجامعية تنمو بمعدلات أعلى من معدلات التسجيل فى الجامعات التقليدية. حيث ظهرت أنواع متعددة للمؤسسات غير الجامعية مثل المعاهد الفنية والتكنولوجية العالية، والمعاهد المهنية المتوسطة (عامين دراسيين)، وكليات التعليم الأهلى (المنشأة من هيئات المجتمع المدنى)، بالإضافة إلى المؤسسات التى تقدم خدمات التعليم عن بُعد والتعلم مدى الحياة وبرامج تعليم الكبار.

برغم هذا التنوع غير المسبوق فى النظم والبرامج على المستوى العالمى، فقد تبنت كل دولة رؤية تعليمية متمايزة عن أقرانها تعتمد على نموذج تعليمى يتوافق من طبيعة نظامها الاقتصادى والاجتماعى والثقافى ويحقق أهدافها الإنمائية فى مجال التنمية البشرية المستدامة. ومن الطبيعى أن يرتبط النموذج التعليمى المختار بنظام تمويلى يتحدد بعدد من المعايير الحاكمة ترتكز على استراتيجية التعليم العالى.

●●●
اختارت دولة فنلندة – على سبيل المثال – نظاما للتعليم العالى يعتمد كليا على الجامعات الحكومية التى تقدم الخدمة التعليمية بدون مقابل مادى (أو رسوم دراسية) لكل الطلاب حتى نهاية مرحلة الدراسات العليا. وفى إطار تحقيق هذا التوجه الاستراتيجى فى مجال التعليم، تمول الحكومة الفنلندية نحو 50% من تكلفة التعليم والبحث العلمى الجامعى وتحث مؤسسات المجتمع المدنى ومجتمع الأعمال الخاص لتقديم دعم مالى وعينى لمراكز «التعلم مدى الحياة» الملحقة بكل جامعة. ومن ثم يمكن استخدام العائد المتولد عن الخدمات التدريبية والتأهيلية التى تقدمها هذه المراكز فى استكمال متطلبات تمويل الأنشطة الجامعية. وبالطبع فإن دور هذه المراكز يختص بتقديم خدمات متنوعة فى شكل برامج تدريبية وتأهيلية وورش عمل، تتوافق مع توجهات التعلم المستمر ومتطلبات عصر العلم والمعرفة بالألفية الثالثة. كما سعت وزارة التعليم الفنلندية إلى الارتقاء بالجانب البحثى للجامعات وارتباطه بمجتمع الأعمال. ولا يخفى على المهتمين بقضايا التعليم أن منظومة التعليم الفنلندى تحظى باحترام وتقدير عالمى كبير وتحتل مرتبة متقدمة بين دول العالم من حيث جودة نظامها التعليمى وفعاليته.

ويعتمد نظام التعليم العالى البريطانى – من ناحية أخرى – على الجامعات التى تتلقى دعما ماليا حكوميا للقيام بأنشطتها التعليمية والبحثية والثقافية. ونظرا لقصور التمويل الحكومى تقوم الجامعات بتحصيل رسوم دراسية مخفضة من الطلاب الانجليز وتعتمد على القروض الدراسية للطلاب من البنوك فى استكمال مستويات التمويل المطلوبة. كما يعتمد تمويل هذه الجامعات أيضا على الرسوم الدراسية التى تحصلها من الطلاب الوافدين من جميع بقاع العالم للدراسة بالمملكة المتحدة بالإضافة إلى عوائد الخدمات التى تقدمها الجامعة إلى المجتمع البريطانى والأوروبى. ويمثل هذا «النموذج التعليمى» التوجه العام لمعظم الجامعات البريطانية.

وتتبنى فرنسا – فى الوقت الراهن – نموذجا محددا للتعليم العالى يرتكز أساسا على الجامعات الحكومية والمدارس العليا المتخصصة ذات التوجه التطبيقى. وتمثل المدارس العليا بالنموذج الفرنسى نظاما تعليميا على درجة عالية من الجودة والتخصص العلمى الدقيق. وقد توجهت وزارة التعليم العالى – فى نفس الوقت – إلى إنشاء جامعات عامة متوسطة وصغيرة الحجم – تتم الدراسة بها برسوم رمزية – وتركز على مجال علمى أو قطاع أكاديمى محدد. إذ يوجد بالعاصمة باريس نحو 16 جامعة ذات توجهات علمية محددة، حيث تختص جامعتا السوربون1 و2 بالعلوم الاقتصادية والقانونية، فى حين تركز جامعة السوربون 3 على اللغات والآداب، وجامعة دوفين على العلوم الإدارية وهكذا. أى أن فرنسا قد تبنت نموذجًا تعليميًا يعتمد على الجامعات متوسطة الحجم ويشجع تخصص الجامعات فى مجالات علمية محددة، ويدعم انشاء مدارس عليا تطبيقية تستوعب الطلاب الأكثر قدرة ذهنية ومهارة علمية.

●●●
وتُعد دول قارة آسيا أكثر تطورا من حيث تنويع نظم التعليم العالى، فقد اعتمد النموذج التعليمى بتايلاند – على سبيل المثال – على إنشاء جامعتين مفتوحتين ترتبط كل منهما بعدد من الجامعات الإقليمية لاستكمال الجهود التعليمية التى تقدمها الجامعات الحكومية الأربع الرئيسية بمدينة بانكوك. ومن ناحية أخرى، أقامت الصين شبكة متكاملة من الجامعات الإقليمية وتبنت – فى نفس الوقت – منهجيات تعليمية تعتمد على النقل التليفزيونى والتعليم عن بُعد للتغلب على مشكلة الأعداد الكبيرة. فى حين يعتمد نموذج كل من إندونيسيا، وكوريا الجنوبية، والفلبين – بشكل أساسى – على المؤسسات الجامعية الخاصة لمقابلة الطلب المتزايد على خدمات تعليم المرحلة الجامعية وما بعدها.

أما دول أمريكا اللاتينية فقد اعتمدت على نموذج تعليمى يشجع المعاهد المهنية والمراكز الفنية المتخصصة، إلى جانب انشاء جامعات صغيرة الحجم، حيث اتجهت دولة شيلى – على سبيل المثال – إلى تبنى سياسات إصلاحية فى مجال التعليم العالى عن طريق انشاء (82) معهدا مهنيا متخصصا، ونحو (168) مركزا فنيا تستمر فيها الدراسة لمدة عامين دراسيين بعد الثانوية العامة، كما تم تقسيم الجامعتين الحكوميتين إلى (12) جامعة صغيرة متعددة التخصصات. وقد ساهم هذا النموذج التعليمى فى مضاعفة أعداد المسجلين بنظم التعليم العالى ودعم متطلبات أسواق العمل.

●●●
اما ما يتم فى مصر فيتسم بعدم وضوح النموذج التعليمى وأسلوب تمويله ومدى توافقه مع الاختيارات التنموية للدولة وخصائص نظامها السياسى والاقتصادى والثقافى واختياراتها التنموية. حيث تتعدد الآنظمة والبرامج والهياكل الأكاديمية فى الجامعة الحكومية الواحدة. إذ يلاحظ أن الجامعة الحكومية لابد وأن تتضمن معظم التخصصات العلمية – دون النظر إلى تميزها النسبى أو امكاناتها العلمية والتنظيمية – ويوجد بها أنواع متعددة من النظم الأكاديمية وأشكالا مختلفة من الهياكل التمويلية ومن ثم مستويات متباينة من جودة العملية التعليمية.

وحيث إنه يصعب فى الوقت الراهن – فى ظل تراجع الدور التمويلى الحكومى وتزايد الطلب على خدمات التعليم العالى وتنامى معدلات الاتاحة، الاعتماد بشكل أساسى على الجامعات الحكومية لاستكمال الطاقة الاستيعابية للتعليم الجامعى بمصر، فقد توجهت منظومة التعليم العالى فى مصر إلى استكمال طاقتها الاستيعابية من خلال انشاء مؤسسات للتعليم العالى غير حكومية تعتمد فى تمويلها على قطاع الأعمال الخاص ومؤسسات المجتمع المدنى. وقد نتج عن هذا التوجه انشاء جامعات خاصة وأهلية ومعاهد عليا وأكاديميات تقدم خدمات التعليم العالى وفق برامج أكاديمية يتم معادلتها من المجلس الأعلى للجامعات.

من ناحية أخرى سعت معظم الجامعات الحكومية إلى انشاء شعب ونظم تعليمية موازية ووحدات خدمية مولدة للدخل بغية توفير سبل التمويل الذاتى المكمل للدعم الحكومى. وقد شهدت ساحة التعليم العالى فى العشر سنوات الأخيرة سباقا بين الجامعات الحكومية لإنشاء وحدات خدمية ذات طابع خاص، ومراكز للتعليم المفتوح، وشعب للغات وبرامج اكاديمية مشتركة، ثم أخيرا «برامج جديدة». وقد شجعت الدولة هذا التوجه بحكم قدرته على توفير موارد ذاتية إضافية للجامعات بما يخفف الأعباء المالية على ميزانية الدولة. وقد ساهم هذا النمو – غير المخطط – فى البرامج التعليمية وتعدد أنماطها وهياكلها الأكاديمية وبدائل تمويل انشطتها داخل الجامعة الحكومية الواحدة، إلى دخول منظومة التعليم العالى العام فى منطقة ضبابية تتسم بعدم وضوح الرؤية بالنسبة للتوجهات والأهداف الرئيسية التى انشئت من أجلها، ودورها فى إتاحة فرص التعليم العالى للجميع، وعدالة توزيع خدماته وفق معايير الجودة المرغوبة بغض النظر عن القدرة المالية للطلاب.

وفى اعتقادى أن ما يتم بالجامعات الحكومية نتج عن عدم وجود توجه عام حاكم أو نموذج تعليمى وبحثى وتمويلى طويل الأجل يعكس طبيعة منظومة التعليم وتسعى الحكومات المتتالية إلى تحقيقه فى مصر. اذ إنه فى ظل تراجع التمويل الحكومى لجأت الجامعات – فى سعيها إلى استكمال التمويل المطلوب – إلى تطبيق نظام الانتساب الموجه واقتراح انشاء وحدات ذات طابع خاص لتوليد الدخل. ونظرا للزيادة المضطردة فى أعداد الطلاب اتجهت الجامعات إلى انشاء مراكز للتعليم المفتوح، ليس بالضرورة لتقديم نوعية مختلفة من التعلم المستمر فى ظل استراتيجية التعلُم مدى الحياة، ولكن أحيانا لتعظيم سبل التمويل الذاتى. وتلا ذلك انشاء شعب اللغات ثم أخيرا البرامج الجديدة التى سمحت بوجود برامج دراسية برسوم وأخرى مجانية بنفس الكلية. أى أن الحاجة إلى التمويل فى ظل غياب نموذج تعليمى طويل الأجل واستراتيجية شاملة لتنمية الموارد البشرية، والتزايد فى أعداد الطلاب دون حدوث زيادة مقابلة فى الطاقة الاستيعابية للجامعات، قد أدى إلى وجود هذا الخلل الهيكلى فى المنظومة التعليمية.

●●●
فهل تسعى وزارة التعليم العالى – فى ظل المراجعات التى تتم فى الوقت الراهن لتطوير قانون تنظيم الجامعات – إلى البحث فى سبل تطوير نظام أمثل للتعليم العالى والبحث العلمى بالجامعات المصرية ووسائل تحقيق استدامته المالية؛ مع السعى لتحقيق الأهداف المتعددة للجودة والإتاحة والفعالية والمواءمة والحوكمة الرشيدة والعالمية والتعلم مدى الحياة؟


وزير التعليم العالى والبحث العلمى الأسبق،
استاذ بجامعة القاهرةا


معتز خورشيد أستاذ بجامعة القاهرةوزير التعليم العالى والبحث العلمى الأسبق
التعليقات