تتعرض الفكرة الديمقراطية لأزمة عاصفة ترتبط بتراجع بعض حكومات الغرب الأمريكى والأوروبى عن الالتزام بحقوق وحريات المواطنين وتنكرها لمبادئ أساسية كالفصل بين السلطات واستقلال المؤسسة القضائية ونزاهة العمليات الانتخابية.
فمن جهة أولى، تتواصل انتكاسات سيادة القانون بسبب نزوع حكومات منتخبة للتغول أمنيا واستخباراتيا على المواطن وإخضاعه جهرا أو سرا لصنوف مختلفة من المراقبة الدائمة وتمرير قوانين استثنائية لإضفاء شرعية إجرائية على تشويه هوية المواطن باختزال وجوده إلى «مكمن خطر» أو «مصدر تهديد» محتمل ينبغى بالضرورة إخضاعه للمراقبة وبالتبعية ضبطه والسيطرة عليه.
من جهة ثانية، تفرغ هيمنة النخب الحزبية والسياسية والإدارية ومعها المصالح الاقتصادية والمالية وجماعات ضغطها على المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة هذه من الجوهر الديمقراطى: ١) بقصرها ممارسة المواطن الناخب لحق الاختيار الحر لممثليه التشريعيين والتنفيذيين على مجموعات محدودة العدد ودائمة التدوير عليه أن يختار من بينها. ٢) باستبعاد قطاعات شعبية واسعة من عمليات صناعة القرار العام والسياسات العامة ومن ثم الإلغاء شبه الكامل لإمكانياتهم الفعلية لجهة التأثير فى تحديد صالح المواطن والمجتمع والدولة الذى يترك لهيمنة النخب والمصالح الكبرى. ٣) بفصل المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة عن المواطنات والمواطنين الذين تتراجع بفداحة قدرتهم على الإدراك الواعى «لما يحدث» فى أروقة البرلمانات والحكومات وتصدر لهم باستمرار انطباعات زائفة بشأن «تعقد حقائق وتشابك تفاصيل» دولاب العمل التشريعى والتنفيذى و«استعصائها» على فهم العوام الذين يطلب منهم بالتبعية الاكتفاء بالمشاركة فى مواسم الانتخابات المتتالية والتعبير عن رضاهم أو رفضهم للقرارات والسياسات العامة من خلال بطاقات التصويت. ٤) كما ترتب هيمنة النخب والمصالح الكبرى على المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة والاستعلاء الصارخ فى التعاطى مع المواطن عزوف الناس عن المشاركة فى الانتخابات بنسب إقبال كبيرة وهجرتهم لمراكز الاقتراع وبطاقات التصويت مما يقضى على حلقة الوصل الأخيرة بينهم وبين الديمقراطية النيابية.
من جهة ثالثة، تتسع الفجوات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية بين الأغنياء وميسورى الحال والطبقات الوسطى وبين الفقراء ومحدودى الدخل والضعفاء من المهاجرين غير الشرعيين فى الغرب بسبب انقلاب العدد الأكبر من حكومات الغرب الأمريكى والأوروبى على سياسات الرفاه وتخليها عن الكثير من مكونات وإجراءات العدالة الاجتماعية فى سياق الصعود السريع إما للأحزاب النيوليبرالية أو للتيارات الشعبوية (تجسد إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب النيوليبرالية والشعبوية معا). مثل هذه الفجوات تبلور حقائق مؤلمة فى الغرب الأمريكى والأوروبى بها من التمييز ضد قطاعات شعبية واسعة ومن تهميش بيئات سكانية كبيرة ما يسقط مبادئ تكافؤ الفرص والتوازن المجتمعى الضامن للكرامة الإنسانية وللعدالة الاجتماعية فى هوة سحيقة، ويفقد تأسيسا على ذلك قيم العدل والحق والحرية والمساواة مصداقيتها الأخلاقية والإنسانية وفعاليتها المجتمعية والسياسية.
من جهة رابعة، أضحت النخب الحزبية والسياسية ومعها المصالح الاقتصادية والمالية النافذة فى الغرب، على الرغم من توفر ضمانات قانونية وإجرائية لصون حرية التعبير عن الرأى ولابتعاد المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة عن العبث بها، تحكم قبضتها على الفضاء العام عبر حقائق الثروة والنفوذ والملكية الخاصة لوسائل الإعلام وتوظفها لتجاوز القيم الديمقراطية تارة بنيوليبرالية تلغى وجود الفقراء ومحدودى الدخل وتارة أخرى بشعبوية تختلط بالعنصرية وكراهية الأجانب واللاجئين.
***
أما بعيدا عن الغرب الأمريكى والأوروبى، فقد تمكنت الحكومات السلطوية من تزييف وعى الكثير من الأمم والشعوب وصرفها عن طلب الديمقراطية إما بصياغة أفكار بديلة تناوئ الفكرة الديمقراطية وتتمتع بجاذبية وطنية وعالمية أو بالترويج لاستحالة تحقق الديمقراطية فى واقع أخلاقى وإنسانى ومجتمعى وسياسى غير متماسك. وينطبق ذلك على مجمل بلاد العرب التى إما تعانى من انهيار مؤسسات الدول الوطنية، أو تعمل أزمات التخلف والتطرف والإرهاب معاول الهدم فى سيادتها واستقرارها وفاعلية أجهزتها، أو تتكالب الطائفيات والهويات العرقية والدينية والمذهبية والقبلية وغيرها من الهويات الجزئية على شعوبها لتنزع عنهم السلم الأهلى ولتجرد رباط المواطنة من المضمون، أو تتهاوى بها ضمانات السلم والأمن وتتصاعد معدلات أعمال العنف والصراعات المسلحة والحروب الأهلية وتوظف بها عصابات الإرهاب الفراغ الناشئ لإطلاق المزيد من الدوائر الشيطانية لهدم الدول وطرح ثنائية الانتحار «إما الاستبداد والسلطوية وإما الإرهاب والقتل» كاختيار وحيد على أمم وشعوب منطقتنا.