أتخيل أحيانا أن للذاكرة شكلا، أظنها مثلا كالإسفنجة المبرقعة تحتل الجزء الأيمن من الرأس، تتخذ مكانا استراتيجيا متصلا بكل الأعصاب والأعضاء فى الجسد. فتحت الإسفنجة منذ نشأتها خطا مباشرا يصلها بالقلب. تخيلوا معى إذا إسفنجة فى مساحة على اليمين، تمتص ما نمر به من أحداث طوال النهار، تخزن الكثير منه وترسل لقطات إلى القلب، تكبر الإسفنجة مع زخم الأحداث أحيانا، وتعود أياما أخرى إلى حجمها الطبيعى. أيام الزخم، يكبر أيضا خط الإمداد، ذلك الذى يصل الذاكرة بالقلب فيصبح كالطريق السريع تتسابق عليه السيارات. تحمل السيارات ذكريات تتسابق ما بينها وتتزاحم بالاتجاهين على الطريق السريع بين العقل والقلب: يضخ العقل مشاهد ووجوها يستقبلها القلب ويرسل مكانها مشاعر الشوق والحنين والشجن وأحيانا الغضب والإحباط ثم الشوق من جديد.
• • •
تفرز الإسفنجة القصص تماما كما نفرز المخلفات بين ما يجب رميه تماما وما يمكن للطبيعة أن تحتفظ به. لكن فى حالة الذاكرة فلا شىء يرمى تماما إنما يتم دفنه كما تدفن النفايات. أما ما تقرر الذاكرة أن له بعض النفع فها هى، أى الإسفنجة تحفظه قريبا من السطح فيظهر عند أول مطب ويضخ رسالة مشفرة إلى القلب ليرتفع النبض ويجتاحنى الشوق. فلنتذكر أن ما دفن ليس بعيدا هو الآخر، وباستطاعته أن يخرج عند أول استدعاء.
• • •
هلا تخيلتم معى إذا ما يحدث بين العقل والقلب فى موسم الأعياد حين تظهر لى فجأة والدة صديقة الطفولة وهى تعجن كعك العيد وتلون بيض الفصح؟ تتمدد إسفنجة عقلى ويبدأ بيض العيد الملون بالقفز من فتحات الإسفنجة ليسرع فى القناة السريعة إلى القلب فأرى منزلهم يوم سبت النور بعد أن تكون السيدة قد انتهت من تنظيفه وترتيبه وفرد الحلويات انتظارا للضيوف ويتمدد قلبى هو الآخر وأنا أشتاق إلى صوتها ودفء لقائها فى دمشق، هى التى تسكن اليوم بعيدا عن بيتها وما زالت تخبز كعك العيد فتصلنى منه صورة يتفجر معها شوقى لأيام رحلت.
• • •
يظهر اليوم أيضا درب أمشيه مع كثيرين بعد الإفطار فى رمضان فى مدينة قديمة، أنوار الزينة على شكل نجمة وهلال تتلألأ فوق رءوسنا وصوت الباعة يطغى على المكان. الليلة نصف رمضان، كل عام وأنتم بخير، تفضلوا، الخير كثير، الله كريم، انظروا القمر، تمنوا شيئا، أكرمونا، احتفلوا وتهنوا. أين أنا؟ أنا على طريق سريع قد تقتلنى فيه عربة تحمل ذاكرة مكان بعيد وهى تسرع به بين عقلى وقلبى فيتمدد الاثنان حتى أشعر أنهما قد ينفجران من شدة الحنين الذى يمتد فى داخلى ويمسك بأطراف أصابعى وأنا أعجن الكعك هنا مع تخيلى أننى هناك.
• • •
للمواسم ذاكرة تنبت من تحت الأرض فتخرج عودا غضا وورقاته الخضراء لتقول إن القصة لم تنتهِ مع دفنها. وريقات صغيرة تمد رأسها من تحت تراب الذاكرة وتجلب معها وجوها وأصواتا أتعرف عليها فى ثوانٍ سريعة. ألا تتساءلون أحيانا لماذا تتذكرون صاحب دكان الحارة فجأة، مع أنكم، ورغم سنوات من شراء الحلوى من محله، لم تبادلوا معه أكثر من كلمات معدودة؟ ربما لأن ها هى ابنتى تصر على أن نقف عند بقال الحى لتشترى الحلوى فترمينى اللحظة فى دكان ضيق يبيع حلويات مكشوفة نبهتنى أمى مرارا ألا أشتريها ولم أستمع. تطلب ابنتى شيئا وأرانى فيها وأرى الدكان القديم فى المدينة الحديثة التى أعيش فيها وأسمع صوت أمى الذى هو صوتى ينهر الصغيرة ويطلب منها أن تختار نوعا آخر من الحلويات.
• • •
هكذا خرج موقف من مكان مخفى من الذاكرة، تلك الإسفنجة التى لا ترمى شيئا إنما تمتصه وتحفظ كثيرا من المواقف بعيدا، يخرج الموقف إلى السطح ويفتح قناة سريعة مع القلب ويجر إلى المكان الحاضر موقفا قديما ويبث فى قلبى شوقا لطفولة ظننتها انتهت وها هى تعود وأصبح ابنتى التى أدقق فى وجهها فأرانى.
• • •
لا أعرف سر ظهور تفاصيل قد تبدو عادية لا شىء استثنائى فيها فجأة على سطح الذاكرة فينتفخ القلب بمشاعر تحاول أن تعيدنى إلى مكان وزمان محددين، إلى موقف بعينه أظن أننى لم أعره أى انتباه حينها لكنه استقر فى ركن دفين فى الذاكرة وقرر أن يظهر الآن فيربكنى فى يومى العادى هو الآخر. أتخيل أولادى بعد أعوام يعودون إلى أمسية فى شهر رمضان جلس فيها زوجى معهم على الشرفة يعلمهم لعب الطاولة وراقبتهم أنا من خلف الزجاج. أسمع صوت الزهر على الخشب وتعليمات زوجى ثم صرخات الأولاد وأراهم وهم كبار يلعبون الطاولة قرب البحر فى مكان لا أعرفه وها هى ذاكرتهم ترميهم فى اليوم رغم أننا قد لا نكون معا، إنما ستشل حركتهم للحظات حين يعودون إلى الأمسية التى تعلموا فيها لعب الطاولة بعد الإفطار على الشرفة فى يوم ربيعى تردد فيه الطقس بين البرد والحر.
• • •
وأنتم؟ هل تظهر لكم فجأة أمسية حفظتموها فى إسفنجة الذكريات ولم تسحبوها لسنوات، ثم ها هى صور وأصوات أشخاص يأتون إلى يومكم فجأة فيجلسون أمامكم ليلعبوا معكم طاولة الزهر؟