الذات المجروحة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:53 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الذات المجروحة

نشر فى : الجمعة 20 مايو 2016 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 20 مايو 2016 - 9:35 م
كلمات أو أفعال بسيطة ربما تسبب لآخر جُرحا عميقا، قد لا يتصور صاحبها مِقدار ما تحدثه مِن أثر، وقد لا يرى فيها بأسا ولا غضاضة، مع ذلك يتصادف أن تمس وترا شديد الحساسية لدى متلقيها فتفعل به الأفاعيل.

بعضنا اضطر مرات كثيرة أن يعتذر عن شىء أداه ولم يقصد من وراءه سوءا، وكم من مرة تبين لنا أن ما فعلنا أو تفوهنا به، أخذه آخرون على مَحمَلٍ مُختلفٍ، فأفسدَ علاقة ودٍ، ودفعنا لبذل محاولات صلح واسترضاء وتأكيد على حسن النوايا وغفلة العقل.

أحيانا ما نندهش بشدة أمام تأويلات الآخرين لتصرفاتنا ومسالكنا. نراها بعيدة تماما عما أردنا وقدرنا، بل وربما مُناقِضة لما قصدنا مِن وراءها، حتى ليغدو توضيحها عبء ثقيلا على النفس، ويصبح الاعتذار لمَن أساء فهمها أمرا سمجا وسخيفا، وربما فضلنا ترك الحال على علتها ليتكفل الزمن بالتطبيب والمداواة.

***

بعضُ مَن تنجرح ذواتهم وتتأذى أشخاصٌ مرهفو الحس والوجدان، يتألمون لأقل إشارة وغالبا ما يفضلون الكتمان، وحين يعاتبون يظل عتابُهم خفيضَ النبرة وإن كان أصيلا مُوجعا. هؤلاء لا يسرفون ولا يتمادون فى ردود أفعالهم. على الجانب الآخر هناك مَن تعلوا نبرةُ عتابهم ويتجاوز غضبُهم الحدودَ قاطبة، حين تُمَسُ ذواتُهم بأى صورة. هؤلاء يفرطون فى اللوم والمُحاسبة قولا وعملا، وقد يتجهون على الفور إلى الرد باستخدام أعلى صوت، عامدين لا إلى استجلاء الموقف بل إلى تحقيق شكل سريع من أشكالِ الانتقام.

عادة ما يملك النوع الأخير من الناس ذواتا متضخمة لا يُطيق معها إشارة سلبية ولا هَمسة تُقلِلُ مِن شأنِه أو تجعله فى مَصافِ البشر العاديين، يُخَيَل إليه أنه يحوز وحده الحقائقَ الخافية المُطلقة، ويعرف ما لا يعرف الآخرون. إذا قال فليس بعد قوله قول، وإذا فعل ففى فِعله ثمرة الحِكمةِ وخُلاصةِ المَعرفةِ، لا يصحُ أن ينقده شخصٌ ولا أن يمسَ الهالة التى تحوطه مِن قريب أو بعيد. لا يصِح أن ينطق فى حضوره أحدٌ دون إذن، ولا أن يُصرح كائن مَن كان بفكرة تُناقضُ أفكارَه، فالكلُ مِنه فى مرتبة أدنى، أما إذا وقعت الواقعة وأصيبت ذاته ولو بخدش يكاد لا يُرى، كانت الطامة الكبرى؛ فَقَدَ رابطة جأشه وطفق يُرغى ويُزبِد ويُطلق أسلحتَه كلَها دون تمييز، ولربما أطاح فى غمرة الاستثارة والغضب بمَن هم إليه مُقربين.

***

عُرِفَ بعضُ الحُكام بمثل هذه الذوات سريعة الاشتعال، كما عُرِفَت بها شخصياتٌ عامة كانت إذا واجهت نقدا أو مُعارَضة طار لبُها واستشاطت، ولم تكتف بإعلان الخصومة والقطيعة بل غالت فى ردةِ فِعلها وراحت تقطع أشواطا طويلة على درب الثأر والانتقام. نعرف أن بعض هؤلاء نجحوا فى إرضاء كبريائهم المزعوم، وفى تشويه مَن اعتبروهم خصوما مرات ومرات، بل وتمكنوا فى بعض الأحوال مِن إقصائهم مِن على وجه البسيطة، نعرف أن جنونَ العظمة وغليلَ الشعور بالإهانة ربما ينجحان فى فرض واقعٍ قاتمٍ على أفرادٍ وجماعاتٍ وشعوب. نعرف أن شهوة إعلان الانتصار ــ حتى وإن كان وهمياــ قد تدفع إلى حماقات لا نهاية لها، وأن الذوات المُنتفخةَ والجريحةَ فى آن لا تستحى مِن أى فعلٍ، ولا تخجل مِن أى تصرف، ولا يعنيها سوى جَبر الشرخِ الذى أصابها فى الصميم. على كل حال، يُمَيزُ الثباتُ الانفعالى المُحَنَكين عن غيرِهم إزاء تقلباتِ الأوضاع واحتدام الأمور.

***

ندرك أن مئات الأشخاص قُيدَت حرياتُهم وقَصرت أعمارُهم وربما شاخت أرواحُهم قبل أن يأتى الأوان، لا لشىء إلا لأنهم تجرأوا وخدشوا ذاتا عُليا، لا يتصور صاحبُها أن يسمعَ صوتا ناشزا عن صوته أو يرى فردا لا يهتف بروعته وعظمته، لكنا ندرك فى الوقت نفسه أن مثل هذه الذوات هشة، سهلة الكسر وقابلة فى أى لحظة للانهيار.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات