مر أكثر من عامين على نشوب الحرب الروسية ــ الأوكرانية، والسياسة الغربية التى أرادت توظيف الحرب لإلحاق هزيمة عسكرية ساحقة بالقوات الروسية فى ميادين القتال وإنزال ضرر بالغ بالاقتصاد الروسى من خلال فرض العقوبات لم تحقق بعد نجاحات تذكر.
على الصعيد العسكرى، وعلى الرغم من إمدادات السلاح المستمرة للجيش الأوكرانى من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وبريطانيا وبدرجة أقل من فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، لم تتراجع القوات الروسية فى المناطق التى احتلتها فى شرق وجنوب أوكرانيا ولم تتقدم القوات الأوكرانية فى تلك المناطق على الرغم من محاولاتها المتكررة. وإذا كان الاختراق الأوكرانى للأراضى الروسية فى منطقة كورسك والتهديدات الكثيرة الصادرة عن كييف باستهداف مدن ومواقع فى العمق الروسى ومطالبتها لداعميها الغربيين بالسماح لها باستخدام أسلحتهم بعيدة المدى لهذا الغرض (تحديدا الأسلحة الأمريكية والألمانية)، فإن القوات الروسية تبدو اليوم وقد أوقفت التقدم الأوكرانى وترد بالمثل على التهديدات بقصف متواتر لكييف والمدن الأوكرانية الأخرى فى الوسط والغرب (باستخدام الصواريخ والمسيرات) وتثبت دعائم سيطرتها على شبه جزيرة القرم فى جنوب أوكرانيا والمناطق الحدودية فى الشرق ذات الأغلبية السكانية الروسية على نحو يجعل من ضمها للاتحاد الروسى واقعا يصعب منازعته.
على الصعيد الاقتصادى، لم تسفر العقوبات التجارية والمالية والتكنولوجية التى فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية على روسيا، ومن ضمنها حظر استيراد الطاقة الروسية، لا عن انهيار معدلات النمو ولا عن ارتفاع معدلات التضخم أو عن زيادة نسب الفقر والبطالة فى الاتحاد الروسى. على العكس من ذلك، سجل الاقتصاد الروسى نموا قدر بـ٣,٦ بالمائة فى ٢٠٢٣ بينما لم تتجاوز معدلات التضخم فى ٢٠٢٢ و٢٠٢٣ حدود ٨ بالمائة.
أما على الصعيد السياسى، فقد كان الرهان الغربى، ومنذ اللحظة الأولى لنشوب الحرب، هو أن تتعثر حكومة الرئيس فلاديمير بوتين عسكريا واقتصاديا فى أوكرانيا على نحو يفتح أبواب الانتقاد والاحتجاج داخل دوائر نخبة الحكم الروسية وفى الفضاء العام على اتساعه ويرتب «انقلاب قصر» يطيح ببوتين ويأتى ببديل ينهى الحرب فى أوكرانيا. هنا أيضا لم تصدق التوقعات الأمريكية والأوروبية، فلا مكانة بوتين اهتزت بين دوائر نخبة الحكم وأوساط النخب الاقتصادية والمالية، ولا سيطرته على مؤسسات الدولة تراجعت، ولا معارضة داخلية أو سياسية عامة تبلورت وضغطت من أجل إنهاء الحرب. بل إن بوتين وحكومته تجاوزا خلال العامين الماضيين دون كلفة سياسية كبيرة أزمات داخلية من نوعية تمرد «ميليشيات فاجنر» ثم مقتل قائدها فى حادثة سقوط طائرة خاصة فى ٢٠٢٣ ووفاة المعارض الروسى أليكسى نافلنى فى بدايات ٢٠٢٤ فى ظروف غامضة داخل سجن سيبيرى.
• • •
الواقع أن نجاح روسيا فى التماسك العسكرى والاقتصادى والسياسى لم يرتبط فقط بتوظيف الثروات والقدرات الداخلية الهائلة للدولة صاحبة المساحة الجغرافية الأكبر فى العالم والتى مكنت على سبيل المثال المؤسسات الصناعية والعسكرية من رفع قدراتها الإنتاجية وقيادة النمو الاقتصادى منذ ٢٠٢٢. كذلك لم يكن النجاح الروسى مجرد تعبير عن القبضة السياسية والأمنية القوية للرئيس فلاديمير بوتين التى ساعدته على التحييد السريع لميليشيات فاجنر وإنهاء تمردها وعلى مواصلة الخروج على الفضاء العام فى الدولة مترامية الأطراف بمظهر السلطة المنضبطة والحكومة الفعالة. فالشاهد أن التماسك الروسى تواكب مع توظيف موسكو الناجح لتحالفاتها الدولية لتقليل التداعيات السلبية للسلاح الغربى المتدفق على أوكرانيا وللعقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على روسيا.
فقد حصلت روسيا على أسلحة نوعية (صواريخ باليستية ومسيرات) وذخائر من حليفتيها الاستراتيجيتين، إيران وكوريا الشمالية، ساعدتها على مواجهة مراحل التراجع فى الأداء العسكرى لقواتها التى شهدها ٢٠٢٣ والتغلب على محطات النقص فى الإمدادات العسكرية.
أما اقتصاديا وتجاريا ودبلوماسيا، فاستفادت روسيا كثيرا من تطور تعاونها مع الصين حيث نمت التبادلات التجارية بين البلدين بنسبة تتجاوز ٣٥ بالمائة فى ٢٠٢٣ واعتمدت حكومتا الدولتين العملتين الوطنيتين، الروبل والإيوان، كأساس نقدى للتبادل. كذلك استفادت روسيا من تنامى علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الهند ومع دول مجموعة البريكس والعديد من بلدان الجنوب العالمى، وأغلبية تلك الدول رفضت المشاركة فى تطبيق العقوبات الغربية. كما أن التنسيق الروسى مع مجموعة الدول المصدرة للنفط والغاز الطبيعى فى منظمة أوبك بلس، خاصة مع دول مجلس التعاون الخليجى، اتسم بالفاعلية التى نجحت فى الحفاظ على استقرار الأسعار فى الأسواق العالمية وتجنبت انهيارها الذى سعت إليه الولايات المتحدة الأمريكية من خلال الضغط المتكرر على بعض دول أوبك بلس لرفع معدلات الإنتاج.
كذلك نجحت السياسة الخارجية لموسكو فى حشد رفض دولى خارج الغرب للعقوبات، وصنعت توافقا دبلوماسيا عالميا يعترف باعتبارات الأمن القومى الروسى التى لا يمكن تجاهلها فيما خص وضع أوكرانيا وخطر انضمامها إلى عضوية حلف الناتو. وانعكس ذلك بوضوح فى السلوك التصويتى للدول غير الغربية فى الجمعية العامة للأمم المتحدة على مقترحات قرارات إدانة الغزو الروسى لأوكرانيا التى تقدمت بها الدبلوماسيات الأمريكية والأوروبية ورفضتها أو تحفظت عليها أغلبية من الدول الآسيوية والإفريقية والأمريكية اللاتينية. ثم كان أن شغلت الحرب فى غزة اهتمام العالم، حكومات وشعوبا، ورتبت تراجع المتابعة السياسية والإعلامية للحرب الروسية ــ الأوكرانية وأعادت إلى الأذهان حقيقة ازدواجية معايير الغرب الذى يدعى رفض الاحتلال الروسى للأراضى الأوكرانية لمخالفته القانون الدولى بينما يقبل أو يصمت عن الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية ويتجاهل منذ عقود حقيقة مخالفته للقوانين والمواثيق الدولية.
• • •
بعد مرور أكثر من عامين على نشوب الحرب الروسية ــ الأوكرانية، يقف الغرب أمام حصاد سلبى لسياسته تجاه روسيا. فلا القوات الروسية دحرت ولا الاقتصاد انهار ولا العقوبات الغربية تحولت إلى عقوبات عالمية. وصار الرفض الأمريكى والأوروبى لذهاب الأوكرانيين إلى مفاوضات مع روسيا قد تنتج تسويات سلمية وتنهى الحرب عنوانا لفشل دبلوماسى ذريع، وسببا رئيسيا لاستمرار القتال وتصاعد كلفته الإنسانية والمادية.
قبل الحرب، تجاهلت واشنطن اعتبارات الأمن القومى الروسى التى تجعل من انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو ووصول الحلف إلى الحدود الجنوبية للاتحاد الروسى مسألة بالغة الخطورة ومحل رفض قاطع قد يرتب التحرك العسكرى لموسكو. وبعد نشوب الحرب، قادت واشنطن ومعها برلين ولندن وباريس رفض التفاوض مع موسكو وضغطت على كييف لعدم الذهاب إلى جلسات مفاوضات انطلاقا من أن السلاح الغربى سيغير المعادلات العسكرية على الأرض فى الشرق والجنوب الأوكرانى ومن أن العقوبات ستزج بالاقتصاد الروسى إلى أتون أزمة خانقة.
فى البدء مارست واشنطن الاستعلاء على الاعتبارات المشروعة للأمن القومى الروسى، ثم تورطت ومعها كبريات العواصم الأوروبية فى حسابات استراتيجية خاطئة ثبت فشلها وارتدت نتائجها السلبية إلى الدول الأوروبية التى تعانى اليوم بشدة مع توقف إمدادات الطاقة الروسية وتراجع معدلات نموها الاقتصادى (وهو التراجع الذى بلغ حد الانكماش فى الحالة الألمانية فى ٢٠٢٣).
اليوم، أيضا على واقع تصاعد المعارضة السياسية الداخلية فى الغرب للمساعدات العسكرية والاقتصادية والمالية المقدمة لأوكرانيا، إن من الحزب الجمهورى فى الولايات المتحدة أو من أحزاب اليمين المتطرف التى تحقق نجاحات متتالية فى انتخابات الدول الأوروبية، ليس أمام واشنطن وبرلين ولندن وباريس واقعيا وبحسابات السياسة والاقتصاد والمصالح الاستراتيجية غير دفع أوكرانيا إلى البحث عن تسويات تفاوضية وسلمية للحرب لن تأتى فى حدودها الدنيا سوى بقبول حياد أوكرانيا وعدم انضمامها إلى حلف الناتو والاعتراف بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم.
فلا غزو الأراضى الروسية فى كورسك سيسفر عن انقلاب المعادلات الاستراتيجية والعسكرية على الأرض ولا التهديد باستخدام الصواريخ والطائرات الأمريكية والألمانية فى الهجوم على العمق الروسى سيغير من الحسابات.