هل يجب أن يقلق المصريون جراء الأزمة العاصفة التى يعيشها اللبنانيون فى مجال الصحافة والإعلام؟
سنأتى إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك وقفة أولا أمام طبيعة هذه الأزمة وامتداداتها العربية والعالمية.
فى مطلع هذا الشهر، اضطرت الصحيفة اللبنانية العريقة «النهار»، وهى المدرسة التى علّمت الكثير من الإعلاميين فن الموضوعية، والدقة المهنية، والسلامة اللغوية، إلى الاستغناء عن خدمات أكثر من 50 محررا وموظفا بسبب الضائقة المالية الخانقة (نحو مليون دولار خسائر سنوية) التى تمر فيها، مثيرة بذلك زوبعة من الاتهامات المؤسفة وغير الصحية فى الوسط الإعلامى اللبنانى.
وبعد ذلك وقبله كانت مؤسسات صحفية وإعلامية لبنانية أخرى تنحو الواحدة تلو الأخرى المنحى نفسه وللأسباب نفسها.
ففى أواخر شهر سبتمبر الماضى، سرّحت مؤسسات كبيرة، على غرار «ستوديو فيجن» و«أل.بى.سى» وتليفزيون المر، عشرات العاملين والإعلاميين. والحبل على الجرار، حيث يُتوقع أن تتكرر الظاهرة نفسها فى العديد من الصحف والمجلات وأجهزة الإعلام المرئية والمسموعة فى لبنان.
الأسباب المباشرة لهذه الأزمة مُتّصلة بالأزمة الاقتصادية العالمية، التى دفعت بدورها بعض كبار المُمولين العرب إلى وقف أو تقنين مساعداتهم للإعلام اللبنانى. وعلى سبيل المثال، عمد الأمير السعودى الوليد بن طلال، الذى خسر على ما يُقال بلايين الدولارات فى المؤسسات المالية الأمريكية المُفلسة، إلى حجب أو خفض مساعداته لـ»النهار» وأجهزة إعلام أخرى. وكذلك فعل، أو سيفعل، قريبا متموّلون لبنانيون وعرب آخرون.
سبب آخر هو الانخفاض الكبير فى موازنات الإعلانات التى هبطت بمعدل 20 فى المائة، الأمر الذى عنى أن الأزمة المالية التى ضربت منطقة الخليج العربى، وصلت أخيرا إلى الضفاف اللبنانية. والواقع أنها كان يجب أن تصل قبل ذلك لولا أن التمويل العربى والإيرانى الكثيف للانتخابات اللبنانية (نحو 3 بلايين دولار على ما يُقال)، منح الإعلام اللبنانى فرصة تنفّس مؤقتة.
ثم هناك أخيرا سبب ثالث يتمثّل فى الهبوط الساحق فى نسبة قراء الصحافة المكتوبة، بفعل التقدم الساحق للصحافة الرقمية.
هذه العوامل الرئيسة تتشابك الآن لتفرض ما يمكن أن يكون أخطر أزمة يمر بها الإعلام اللبنانى منذ 200 سنة. وهى تتقاطع وتتشابك مع الأزمة التى تمر بها هذه الأيام باقى الصحف فى العالم.
فحين احتفل الصحفيون فى شتى الدول قبل سنتين بمرور 400 عام على ولادة أول صحيفة فى العالم (وهى جريدة «ريلاشن» التى صدرت فى ستراسبورج بأوروبا) كان ثمة سؤال يحوم كالسيف فوق رءوسهم: هل الصحافة المكتوبة على وشك «الانقراض»؟
هذا السؤال كان كئيبا بما فيه الكفاية للقراء الذين يقيمون عادة علاقة غرامية ووجدانية قوية بصحفهم ومجلاتهم المكتوبة. ومع ذلك، المسألة كانت مطروحة بقوة بفعل الحصار الشامل الذى تتعرض إليه الكلمة المكتوبة على يد الكلمة الرقمية والصورة المرئية، وقريبا على يد الخدمات الإعلامية على الهواتف المحمولة. وهذا ما دفع رئيس تحرير «نيويورك تايمز» آرثر سولزبرجر إلى الاعتراف مؤخرا بأن «ثمة قوة لا ترحم تدفع باتجاه مستقبل رقمى على حساب الحاضر المكتوب».
كما أن هذا أيضا دفع كبريات الصحف الأوروبية، وفى مقدمتها الجارديان والتايمز والإندبندنت فى بريطانيا وداى فيلت فى ألمانيا و«وول ستريت» جورنال فى أمريكا، إلى الانتقال من الحجم الكبير (برود شيت) إلى حجم التابلويد الصغير، بهدف وقف انحدار المبيعات وللوصول إلى قراء الجيل الجديد الذين يحبذون الحجم الصغير والاختصار والسرعة.
بالطبع، ليست الصور داكنة إلى هذا الحد (ليس بعد على الأقل!). فأرقام «المنظمة العالمية للصحف»، التى عقدت مؤخرا مؤتمرها السنوى الـ58 ـ فى سيول بحضور 1300 ناشر ورئيس تحرير، أشارت إلى أن مبيعات الصحف العالم الماضى ارتفعت بنسبة 2 فى المائة وبلغت نحو 400 مليون نسخة فى اليوم. كما ازدادت عائدات الإعلانات بأكثر من 5 فى المائة. والفضل فى هذا الارتفاع يعود إلى منطقة شرق آسيا التى عوّضت هبوط المبيعات فى أوروبا الغربية وأمريكا وزادت المبيعات فيها بنحو 4.1 فى المائة.
ورغم هذا التحّسن، حذّرت المنظمة من المخاطر التنافسية الخطيرة التى تتعرض إليها الصحف خاصة على يد مواقع الإنترنت الإخبارية التى باتت تنشر مجانا تغطيات وأخبارا أكثر سرعة بما لا يقاس من الصحف التقليدية. وهى حثت على تطوير استراتيجية جديدة لمواجهة هذا الخطر.
لكن أى استراتيجية؟
رئيسا تحرير «يوميورى شيمبون» (10 ملايين نسخة يوميا)، و«أساهى شيمبون»، (8 ملايين نسخة)، دعيا الصحف إلى التركيز مجددا على الأخبار الخاصة ولكن الموثقة كليا كوسيلة وحيدة لجلب القارئ. ورئيس تحرير «يو أس توداى» الأمريكية، (2.3 مليون نسخة) وافق على هذا الرأى، وأضاف إليه ميزتى الصدقية والموضوعية والمعلوماتية فى بابى المقالات والتحليلات.
حسنا.. ربما يكون هذا مجديا. لكن ماذا لو تحّركت مواقع المدونات الإنترنت والهواتف والفضائيات الإخبارية نحو هذا الهدف أيضا؟ هل سيكون فى وسع الصحف والمجلات المكتوبة بعد مواصلة المنافسة ووقف حالة الحصار؟.
الأمر يبدو صعبا.. ولذا، الحل قد يمكن أن يكمن فى دمج كل الاقتراحات المتعددة والمتنوعة المطروحة الآن فى رزمة واحدة، منها:
1 ـ تصغير الحجم.. 2 ـ إحداث ثورة فى طريقة التعاطى الإخبارى والتحليلى.. 3 ـ و(هنا الأهم) إبرام زواج سعيد ومتكافئ بين الكلمة المكتوبة والكلمة الرقمية.
نعود الآن إلى سؤالنا الأول: لماذا يجب أن يهتم المصريون بأزمات اللبنانيين الإعلامية؟
لأسباب عدة:
فبيروت والقاهرة كانتا على مدار التاريخ الحديث التوأمان الرئيسيان لأى وكل نهضة فكرية وثقافية عربية، بحيث إذا ما عطس أحدهما أصيب الآخر بالزكام. والعكس صحيح: إذا ما انتشى أحدهما، ازدهر الآخر. حدث هذا فى القاهرة العام 1875، حين ساهم اللبنانيون فى تأسيس كبريات الصحف المصرية الحالية كالأهرام والهلال، وحدث هذا فى بيروت فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين حين انتعش الإعلام اللبنانى بفعل النهضة الثقافية والسياسية الناصرية.
والآن، وإذا ما سقط الإعلام اللبنانى مضرجا بدماء أزماته الراهنة، فإن هذا سيُضعف حتما من قدرة القاهرة لاحقا على التقاط أنفاسها لاستئناف ما انقطع من موقعها الريادى فى حماية وترقية الفكر والثقافة العربيين.
ثم إن ما يجرى إعلاميا فى لبنان (والعالم) هذه الأيام يمكن أن نكون نذيرا للإعلام المصرى كى يتعظ من الدروس ويستنبط الحلول.
أجل.. بيروت الإعلامية تعطس كثيرا هذه الأيام، وعلى القاهرة الإعلامية أن تأخذ حذرها وأن تنتبه جيدا إلى جيوبها الأنفية!