أشرت بالأمس إلى درسين مستفادين من خبرتى خلال الأشهر الماضية حين التعامل معها بصورة نقدية، الأول هو خطورة التسرع فى بيئة سياسية متغيرة والثانى هو خطأ مهادنة أصحاب الخطابات الإقصائية بغض النظر عن مرجعياتهم الأيديولوجية. واليوم أضيف ثلاثة دروس أخرى.
الدرس الثالث النتائج السلبية لتناول قضايا السياسة بمعزل عن الاعتبارات الأمنية والاقتصادية والظروف المعيشية: نخبة السياسة والأحزاب والمدافعين عن التحول الديمقراطى أخفقوا فى الربط بين قضاياهم والهموم الأخرى للمواطنات والمواطنين. طالبت مرارا، ككثيرين غيرى، بإيقاف المحاكمات العسكرية للمدنيين وإنهاء حالة الطوارئ إلا أننى تجاهلت طويلا قلق الرأى العام من ظواهر البلطجة والإجرام ولم أقدم إجابات محددة إلا مؤخرا باقتراح تفضية دوائر قضائية مدنية للإسراع فى محاكمة المتسببين فى جرائم البلطجة وإضافة مواد خاصة بهذه الجرائم إلى قانون العقوبات. طالبت أيضا بالكثير من الإجراءات السياسية كجدول زمنى لنقل السلطة وإصلاح مؤسسات الدولة ولم أطور ابدا مقترحات محددة لتخفيف وطأة الأوضاع الأمنية والاقتصادية على المواطنين.
حملنى الابتعاد عن هموم الناس نقدا متصاعدا ارتبط بالانتماء لنخبة سياسة تتجاهل الشارع ولا ترغب، هكذا بات يراها قطاعا واسعا من المصريات والمصريين، إلا فى اقتسام عوائد ثورة لم يصنعوها. التحدى الذى أواجهه اليوم هو إنتاج روابط كافية ومقنعة بين السياسة والهموم الأمنية والاقتصادية ومخاطبة المواطن ببرامج للتنمية وليس بشعارات، والانتخابات البرلمانية هى الاختبار القادم هنا.
الدرس الرابع تجاهل تحديات ما بعد الثورة والإغراق فى مسار الثورة ومطالبها الآنية: ما بعد الثورات أخطر دوما من الثورات نفسها، حقيقة تاريخية معلومة لم نتعامل معها بمسئولية كاملة خلال الأشهر الماضية. الدولة المصرية ومؤسساتها تعانى من تراجع قدراتها بعد الثورة ومجتمعنا مأزوم بين دولة متراخية وقطاعات واسعة من مواطنيه تضرب وتعتصم وتتظاهر بصورة يومية على وقع ثورة فى التوقعات والمطالب. فى مثل هذه الحالة لابد من الربط بين الدعوة لإصلاح مؤسسات الدولة ديمقراطيا، كالأجهزة الأمنية والوزارات ومجالس المحافظات والمحليات، وبين تطوير خطط واضحة تحدد مخاطر وفرص الإصلاح وتضع جدولا زمنيا لإدارته يضمن عدم الانزلاق من تغيير النظام إلى هدم الدولة.
كذلك غابت المعالجة التفصيلية، لدى ولدى غيرى، بشأن كيفية التعامل مع أزمات المجتمع بإضراباته واعتصاماته عبر التفاوض بين السلطات والمواطنين. بدون دولة متماسكة لن ننجح فى إدارة تحول ديمقراطى ووضع مصر على مسار تنمية مجتمعية شاملة. أخفقت فى التناول الجاد لهذه الحقيقة للإسهام فى ضبط الخطاب العام حول الدولة، فقط فى الأسابيع الأخيرة ربطت بين مطالبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتحديد جدول زمنى لنقل السلطة للمدنيين وبين ضرورة الإبقاء على الجيش كمؤسسة حاملة وحامية للدولة المصرية بعيدا عن السياسة وصراعاتها. الانتصار للدولة ولتماسكها وبعض القوى السياسية تعمل على استكمال مطالب الثورة ضرورة لا تقل جوهرية عن بناء الديمقراطية وسيادة القانون.
الدرس الخامس التوازن الضائع بين العمل الإعلامى والعمل الجماهيرى: الأداة الإعلامية تغرى بالاعتماد الكامل عليها لتوصيل الأفكار والتواصل مع الرأى العام والتأثير على اتجاهاته. إلا أن العمل الإعلامى، وإن مكن من التواصل واستحسنه البعض وطالب بمتابعته، يعوق العمل الجاد بين الناس ويحول دون استثمار جهد كافٍ فى بناء جماهيرية حقيقية لفكرة أو طرح سياسى أو برنامج انتخابى أو مشروع حزبى.
لى ولغيرى ممن تحولوا خلال الأشهر الماضية إلى «الرءوس المتكلمة» فى الساحة العامة (كما يرد فى التعابير الغربية الواصفة لنفس الظاهرة)، ربما مثلت الانتخابات البرلمانية القادمة فرصة ذهبية للخروج من أسر الاعتماد الاحادى على الإعلام والعمل بين الناس بهدوء ودون مكابرة.