كثيرة هى الأصوات التى تحيط بنا، حيثما اتجه المرء تطرق أذنيه بعنف وتجبره على الاستسلام لها. تسجنه داخلها فلا يستطيع الفكاك. أصوات مرتفعة فى كل مكان، فى الشارع والعمل والبيت، كثيرة بحيث يصعب ترشيد مصادرها أو حصارها.
أبواق السيارات التى لا تكف أبدا عن الانطلاق، صيحات التباعين على زبائن الميكروباص، الغناء الصادح العابر لجميع الحواجز فى الأفراح والأعياد وجميع المناسبات السعيدة، صوت التليفزيون ورن الهواتف المحمولة وألعاب أطفالنا التى تعتمد فى كثير من الأحيان على قوة إصدار الصوت.
صوت حديثنا أنا وأنت والآخرين. فى القطار تسمع صوت الراكب الذى يبعد عنك بطول العربة بأكملها. تتلقف كل الكلمات التى تخرج من أحباله الصوتية.
تسمع صوتا ينطلق من هاتف جارك فى المقعد، تكتشف أنه شخص يحادثه على الجانب الآخر ربما يكون على بُعد مئات الكيلومترات، لكن صوته يهاجم أذنيك بوضوح. حين تستقل تاكسى يقوم السائق برفع صوت الكاسيت أو الراديو عن آخره كأنه يحتفى بك. حتى قراءة القرآن فى المآتم تتم بصوت شديد الارتفاع يفقد الجالسين القدرة على المتابعة ويسلبهم الخشوع.
نداءات الباعة الجائلين صارت تأتى على هيئة صرخات قصيرة مُنَفِّرَة. المؤذنون فى المساجد يزعق كل منهم فى موعد الصلاة كأنما هناك منافسة محتدمة، يفوز بها من يتمكن من فرض صوته على الآخرين.
دار الأوبرا نفسها لم تسلم من المرض المتفشى، الصوت العالى يخترق أذنى المستمع ويصمهما ويفسد عليه لذة الإنصات ومتعة التركيز.
لا يفترض أن يمثل الصوت البشرى مرادفا للضوضاء، إنه بمثابة لغة مستقلة قادرة على التعبير بمفردها عن أشياء وأشياء. حين يتحادث الأشخاص وجها لوجه، تصبح هناك مستويات عدة للتواصل: كلمات ملفوظة ولغة جسدية وكَمٌّ من الذبذبات الصوتية المتنوعة.
تنقل هذه الذبذبات الصادرة عن الحنجرة أحاسيس وانفعالات شتى: خوف، غضب، فخر، أو حتى سخرية. لا يقتصر التعبير الصوتى على البشر فحين يخاف القط يشرع فى إصدار صوت خشن متقطع يُعلن به استعداده للعراك، وحين يطلب الزواج فإنه يُصدِرُ مواء مختلفا: عميقا طويلا لا تتخلله وقفات كثيرة.
الفارق بين الحالتين (المحادثة والمواء) أنه مع قدرته على إصدار ذبذبات مختلفة، لا يستخدم القط صوته بغير احتياج: دفاعا عن النفس أو رغبة فى التواصل وإشباع الغرائز. كثيرا ما تصدر عنا نحن البشر جلبة هائلة دون داع. بلا هدف وأحيانا بلا طائل.
نستخدم أصواتنا بسخاء كبير وإذا لم تف بحاجتنا أضفنا مصادر جديدة، فائض من الأصوات المتنوعة تضغط على الجهاز العصبى تربكه وتستفزه وتصيبه بالتوتر، تجعله ينتفض لكل شاردة وواردة، تخلق حالة ذهنية مشوشة تنهك صاحبها وتدفعه إلى الانفجار عند أدنى استثارة.
مؤثرات لا أول لها ولا آخر تدخل إلى أدمغتنا تملؤها وترهقها إلى حد التلف. تماما كما يفعل الإفراط فى تناول الطعام بالمعدة، يصيبها بالغثيان وعسر الهضم ويحرمها الاستفادة بمحتوى الغذاء. تترهل المعدة وكذلك يترهل العقل ويفقد حيويته.
الصوت العالى دليل على ضعف الموقف: حكمة صارت فاضحة فالصوت العالى هو أحد المواقف المعدودة التى نعرفها ونمارسها بدأب، ونظل نأمل أن تصل بنا إلى بيت القصيد. نصرخ فى جميع المناسبات والمواقف، نزعق دون نتيجة، نصنع غابة من الأصوات والمحصلة النهائية صفر كبير.
ترى لماذا تعلو أصواتنا وأصوات كل ما يحيط بنا، فإذا حل الهدوء شعر المرء بالدهشة، بأنه قد خرج من العالم الذى يعيش فيه إلى عالم غريب؟ ربما هى وسيلة للدفاع عن النفس وسط زحام يضيع فيه كل شىء، وربما هو اليأس من إحراز أى تقدم دون صراخ وضجيج، ربما لم نعد نرغب فى مزيد من الإصغاء بعد أن تشبعنا بكثير من الكلمات المنمقة، وربما لأن الصخب يزيح عنا عبء التفكير وسخافة أن ندرك حجم ما يتداعى حولنا من مفردات.
حين تتكالب الأصوات يكف المرء عن التفكير فى محتوى الأشياء، تحتجب عنه دلالاتها ومعانيها.
أحيانا ما يصبح الصوت العالى هو التعبير الوحيد عن الوجود، كلما علا أكد لصاحبه أنه مازال على قيد الحياة قادر على أن يلفت إليه الانتباه برغم الأتربة التى تغطيه.
ربما تشعرنا الضوضاء المستمرة بأننا لسنا وحيدين، مجرد مظهر زائف يخفى وراءه عزلة العاجزين عن التواصل والفعل الحقيقى. الكل يصرخ الكل لا يسمع إلا صوته فقط أما أصوات الآخرين ففى الخلفية تصنع لحنا ناشزا.