انتحار - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:30 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

انتحار

نشر فى : السبت 20 ديسمبر 2014 - 8:40 ص | آخر تحديث : السبت 20 ديسمبر 2014 - 8:40 ص

 أخبارٌ كثيرةٌ جدا عن الانتحار. أخبارٌ ملأت صفحات الحوادث فى غالبية الجَرَائِد، وتَصَدَّرَ بعضُها مشفوعا بالصورِ الصفحاتِ الأولى، كما ظَهَرت أيضا على الشاشات، وتداولتها المواقعُ الإلكترونية بفيضٍ مِن التعليق. المنتحرون الذين تناقل الناس قصَصَهم فى الفترة الأخيرة أغلبُهم مِن الشبّان والشابّات وأقلُّهم مِن كِبار السِنّ، أمرٌ لم يكن مألوفا مِن قَبل؛ ربما لأسباب تتعلق بسياسات النشر وسمت التناول الإعلامى، وربما أيضا لأن نسبة المنتحرين لم تكن فيما سبق لافتة للانتباه. لا معلومات دقيقة متوافرة، والنسبة التى تبدو مرتفعة مع توالى الأخبار ليست الأمرَ الوحيدَ المُستَغرَب.

عادة ما يختار اليائسون وسائلا بسيطة ومضمونة لإنهاءِ الحياة، وما أسهل تَنَاول أشرِطَةٍ أو عُلبٍ كاملةٍ مِن الدواء، أو النوم فى هدوءٍ واستنشاق الغاز. لا أُحصى أساليبَ الموتِ المريح، لكن اختيار عددٍ مِن الأشخاص الذين انتحروا فى الأسابيع الماضية للشنقِ تحديدا، لهو أمر يدعو إلى التأمُّل؛ وخاصة حين تُقدِمُ عليه امرأةٌ شابةٌ. الشنقُ وسيلةٌ عنيفةٌ صعبةٌ وغير أكيدة، والألم الذى قد يكابدُه المشنوق قبل أن يلفُظَ أنفاسَه الأخيرة عسيرٌ، وربما تكون الرسالة التى رَغَبَ هؤلاء فى تركِها هى الدافع وراءَ الاختيار. بعض مَن اختاروا الشنقَ قرّروا أن يكون موتهم مُعلنا ومُفجعا، وكأنهم ينتقمون مِن المُجتَمع الذى عَجَزَ عن حمايتِهم واستيعابهم، ويوجهون إليه صفعة ختامية لم يتمكنوا منها فى حيواتهم، مثلهم فى هذا مثل الشاب التونسىّ البوعزيزى الذى أشعلَ جسده بالنيرانِ أمام المارة رفضا لظلم تعرض له.

•••

كثيرا ما يدفع المسئولون بإصابة المُنتحر بمرضٍ نفسىّ، والمرضُ النفسىّ كالعادةِ هو المَلاذ المُلائم الذى يعفى مِن تَحَمُّل المسئولية. البعض لا يعرف أو يتجاهل؛ إن الانتحار قد يكون فى بعضِ المرات اختيارا واعيا لأشخاص يتمتعون بكاملِ الإدراكِ، لا عِلَّة نفسية لديهم تفسرُ الفعلَ وتبرِّره، فقط يقررون الكفَّ عن الحياةِ لأسبابٍ منطقيةٍ وشديدةِ الاتزان؛ على سبيل المثال ربما يجىء الانتحار نهاية مُناسبة لشخصٍ فقد أحِبّائَه كلهم فى حادثٍ ما، وأدرك ألا شىء فى غيابهم يستحق أن يعيش مِن أجله، وقد يجىء الانتحار أيضا نهاية كريمة لشخص انهارت روابطُه الاجتماعية التى تَكفُلُ له الحدَّ الأدنى مِن الأمانِ، ورأى فى تفاصيل حياته اليومية ونمط معيشته إهانة لا تُحتَمَلُ ولا تستقيمُ معها الحياةُ.

•••

بعيدا عن الرأى الدينى الذى قد يصم مَن يقدمون على الانتحار ويُخرجهم مِن زُمرَة المؤمنين؛ يحظى الشخص المُنتحر بأوصافٍ مُتناقضةٍ؛ كونه جبانا ضعيفا قرّر الهروبَ مِن مواجهةِ الحياةِ ومشكلاتها مِن ناحيةٍ، وكونه شجاعا أقدم على مواجهةِ الموتِ بنفسه مِن ناحيةٍ أخرى، وبين الوصفين يبقى سؤالٌ مُعَلَّقٌ دون إجابة: هل تكون الشجاعة القصوى فى مواجهة الموت بكامل غموضه وعدميته، أم فى مواجهة الواقع بكل تعاسته وبؤسه؟

•••

 مثلما تزايدت أخبارُ الانتحارِ، عادت أخبارُ الهجرةِ غير المشروعةِ على ظهرِ سَفائنٍ مُتهالكةٍ لتفرضَ نفسَها على المشهد، وأَظُنّ إنّ كليهما مدفوعٌ بأسبابٍ متشابهةٍ وإن لاحا فى ظاهريهما مُتناقضين؛ المنتحرُ لا أمل لديه، بينما المسافر يسعى وراءَ بصيص أملٍ، لكن الأخير يُدرِك إن احتمالات الموت هى فى حقيقة الأمرِ أقربَ إليه مِن إمكاناتِ النجاة، وهو يرضى بها، ويراها حَلا مُناسبا حال الفشل فى بلوغِ مَقصِده. كلاهما؛ المسافر والمنتحر، لا يرى فرصة مِن موقعه، لا يشعر بإنّ ثمّة تَغَيُّر قد جرى على الأرض، أو إنّ ثمّة تَغَيُّر سوف يأتى فى القريب، كلاهما يسعى إلى الفرار مِن مُعاناة لا يرى لها نهاية.

على غير السائد، ينتحر بعضُ الناسِ فى جماعات، ربما هربا من ضلالة أو هاجس يعتقدون فيه، وأشهر جُموع المنتحرين توقَّع قادتها نهاية العالم وأرادوا أن يسبقوها. بعض الحيوانات تفعل أيضا، إذ قد تُدرِك بغريزتها وحواسِّها عواملَ خطرٍ كامنةٍ، وتسعى إلى الهربِ منها. تنتحرُ الحيتان فى بعض الأحوال بسبب الزلازل البحرية وأحيانا بسبب المرض الشديد، وربما يجنح قائدها إلى البر مع فقدانه للاتجاهات حيث تشوش السفن حواسه فتخرج وراءه عشرات الحيتان. تنتحرُ قطعان تقدر بالمئات وربما الآلاف مِن الحيوانات البرِّية حين تفشل فى إتمام هجرتها الموسمية، وبعض أسراب الطيور تنتحر سنويا حفاظا على التوازن البيئى، مع ذلك أحيانا ما تتوارى الأسبابُ ويَحارُ العلماء فى معرفة سرِّ فِعلِها.

•••

قيل مِرارا وتكرارا وفى مُناسباتٍ مُتعدِّدة إن الثورةَ كَسَرت حواجزَ الخوفِ إلى غير رَجعَةٍ، وإن هذا الإنجازَ ولو كان الوحيدَ الذى قُدِّر لها تحقيقه لكفى. أظنّ إن تلك الحواجزَ لم تكن مُرتبطة فقط بالخوفِ مِن السُلطة ومِن شراستها وبطشها، الحواجزُ التى تصدَّعت وزالت مع بدءِ الحَركةِ الثوريةِ هى حواجز أعمق بكثير، إنها الحواجز التى طالما أعاقت رَوح المُبادرةِ والفِعل، وبسقوطها صار الناس قادرين على اتخاذ وتنفيذ قرارات عجزوا عنها فيما سبق. حَرَّرَت الثورةُ بقيامها إرادةَ الكثيرين، لكنها لم تُعطِهم ما حَلِموا به، فردوا على خذلانها لهم ردا قاصما.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات