طالما سَمِعت مِن جَدَّتي وصفًا لا أسلاه؛ إذ اعتادت أن تقولَ عمَن غابت عنه حقائقُ الحياة، وضلَّ عما بدا جليًّا للآخرين: هو أعمى القَلبِ والنَّظر. العَماء المُضاعَف وَبال تستعصي مداواته؛ فذاك امرئ عجزت عيناه عن رؤية ما وقع أمامه، مثلما عجز قلبُه وتاه حدسُه وخابت مشاعرُه، وغدا مُجرَّدًا مِن البَصر والبَصِيرة معًا. القلبُ المُبصِر عند مَن أوتوا بعضًا مِن الحِكمة ومِثقالاً مِن خِبرة السنين؛ يأتي قبلَ العَين، وفي مأثورات الأولين وأقوالِهم ما يؤكد هذا المعنى ويُعضِّده.
***
يبدو الفارقُ بين فِعليّ الإبصار والاستبصار شاسعًا؛ الأول له طابعٌ مَاديٌّ، أما الثاني فذو دلالةِ مَعنوية، الأول يُمكِن قياسُه بأجهزةٍ خاصةٍ وأدوات، والثاني لا يخضع أبدًا لمقاييس مَلمُوسة. لا يحتاج المُستَبصِر إلى عينين سليمتين ونظرٍ ثاقبٍ، إنما تلزمه قدرةٌ داخليةٌ على الإدراك.
***
تقول مَعاجمُ اللُّغةِ العربية؛ أَبْصَرْتُ الشيءَ أي رأيته، وإذا قِيل باصَرْتُه؛ فالمعنى رأيته مِن بعيد، وتَباصَرَ القومُ أي رأوا بعضَهم بعضًا، والمُبصِر نقيضُ الضَّرير. التَّبصير بالشيء هو إِيضاحه والتوعية به؛ البَصِير بالأَشياء هو العالم بخباياها والكاشف لبواطنها، والقيام بالأمر عن بَصِيرَة أَي أداؤه عن عِلم وعَمْد، أما قضاؤه على غير بَصِيرَة؛ فعن جَهلٍ وقِلَّة مَعرفة، ويُقال إن البَصَرَ نَفاذٌ في القلب، ومنه أن التَّبَصُّرَ تَّأَمُّلٌ وتَّعَرُّف. البَصِيرَةُ هي إذًا عقيدةُ القلبِ وفِطنة المَرء؛ فمَن عَميت بصيرتُه غابت عنه الفراسةُ وتوارَت الحِكمة.
***
أفصَحت بعضُ الدراسات الحديثة عن أن القلبَ قد يُمارس دورًا عَرفه الأقدمون وأدرجوه في سردياتِهم؛ لكنهم لم يثبتوه بالوسائلِ العِلمية. هذا الدور أبعد مِن ضَخِّ الدماءِ النقيَّة في أنحاء الجَسد واستقبالها مرة أخرى؛ إذ يتعلَّق بالخلايا العَصَبية وخصائصها العليا التي تتدخَّل في المشاعر والأحاسيس وربما الأفكار. القلبُ الأسودُ والقلبُ الأبيضُ وكذلك القلبُ الكبير؛ قد لا تبقى مُجرَّد تعبيراتٍ مَجازية، بل تتحولُ في المُستقبل القريب إلى مُصطلحاتٍ دقيقة؛ لها تعريفات يتوافق عليها العلماء.
***
وضع الشيخُ الطوسي كتابَ "الاستبصار فيما اختلف من الأخبار“ ويُعدُّ أحدُ الكُتُب الشيعيةِ المَرجِعية؛ الجامِعة للأحاديث. هدفُ الكتابِ التحقيقُ فيما تَعارَض مِن رِوايات، وإرشاد المُبتدئين في طريقِهم وإزالة ما التَبَس عليهم، والعنوانُ بالتالي خير اختيار؛ فالاستبصار كشفٌ للأمورِ وتبيين واستجلاء.
***
مِن أشهر الشخصيات المَسرحية التي ظهرت في القرن الماضي؛ سرحان عبد البَصير. الشابُ المِثاليُّ حَدَّ السذاجة، العاجز عن مُجاراة الآخرين في مَسالكهم وأفعالِهم؛ لا يفهم التلميحَ ولا يستوعِب في الوقت ذاته التصريحَ، يُعبِّر اسمُه الأول عما فُطِر عليه مِن حال، فيما لقبُه مَقرون رغم المُفارقةِ بالبَصيرة. جَسَّد الفنانُ عادل إمام دور سَرحان في "شاهد ما شافش حاجة"، لتحتلَّ الشخصيةُ بتناقُضَاتِها البريئة ما بين غفلةِ البراءة وسلامةِ النية ومَلكَة الاستبصَار؛ مساحةً باقيةً في ذاكرةِ الجماهير.
***
تقول العرَّافةُ التي تنبَّأت بسوءِ المَصير: بَصَّرت ونجَّمت كثيرًا.. لكني لم أقرأ أبدًا فنجانًا يُشبِه فِنجانك.. بَصَّرت ونجَّمت كثيرًا.. لكني لم أعرف أبدًا أحزانًا تُشبِه أحزانَك. تلك النبوءة التي استشرَفَت الآتي خرجَت على ما يبدو من جَدارِ فِنجان القهوة؛ وسيلة استبيانِ الطالع واستطلاع المَخفيِّ، والحقيقةُ أن مَعرِفةً وافيةً بمُعطيات الحاضر لا تحتاج في العادة إلى فناجين؛ إذ تقود البَصيرة السليمة إلى استنتاجاتٍ دَقيقةٍ وتوَقُّعاتٍ لا تَخيب.
***
ثمَّة حِكَمٌ وأشعارٌ كثيرةٌ تتحدَّث عن البَصرِ والبَصيرةِ وما بينهما مِن فارق أصيل. يُقال على سبيل المثال إن الكَشفَ مُوكَلٌ إلى النُّور، أما الحُكمَ فمُوكَلٌّ إلى البَصيرةِ، وفي الإطارِ ذاتِه يُقال: البَصَر للآفاقِ والبَصيرة للأعماقِ. القولان مُتكامِلان بل ومُتقاربِان إلى حدٍّ بعيد؛ فالرؤيةُ تستَوجِب وجودَ الضَّوءِ، أما القضاءُ برأيٍ فيتَطَلَّب ما هو أكثر؛ دِراية ومَعرفة ورَشاد. تلعَبُ البَصيرةُ دورَها في إبعاد الناسَ عن ارتكابِ الأخطاءِ؛ فإن قَصُرت بَصائِرُهُم تكفَّل الزَّمنُ بتعليمِهم وجاد عليهم مِن دروسِه بسَخاء.
***
يقول بشَّار بن بُرد وهو مِن أعظم شعراء زمَنه: يا قَومِ، أُذْنِي لِبَعضِ الحيِّ عَاشِقةٌ.. والأُذنُ تَعْشقُ قبلَ العَينِ أحيانًا.. قالوا: بِمَنْ لا تَرى تَهْذي؟ فقلتُ لهُم:.. الأُذنُ كالعَينِ تُوفي القَلبَ ما كانَا. تجاوزت الأبياتُ عِلَّةَ العَمى التي ابتُلِيَ بها الشاعر وتَخَطَّت المَواجِعَ؛ إذ العِشق لا يُمَيِّز بين مُبصر وكَفيف، ورؤية المَحبوب تكون بالحَواسِّ جميعها لا بالنظرِ وحده، والفؤادُ يحدس ما قد تغفل عنه العَين؛ وفي هذا يُنشد أيضًا بشَّار عن امرأة أحبَّها: فقلت دَعوا قَلبي وما اختار وارتضى.. فبالقلبِ لا بالعَينِ يُبصِر ذو الحُب.. فما تُبصِر العَينان في مَوضِع الهَوى.. ولا تسمع الأذنان إلا مِن القَلب.
***
تعمَى البَصِيرةُ تمامًا كما يَعمى النظرُ؛ وأغلب الظَّن أن عَماءَها أخطرُ وعواقبَ فقدانها أليمة. إذا عَمِيت البصائرُ؛ رأى الناسُ الغيَّ عدلًا والتفاهَة حِكمَةً والزيفَ حقًا، بل وصدَّقوا في الكَذِب، ورفعوا الباغيَ فيهم على الأعناق، ونكَّلوا بمَن لم تُصَب بصائرُهُم بعد بالأعطاب. إذا عَمِيت البَصائرُ كانت الحاجةُ ماسةً لإغلاقِ الأعيُن؛ لعلَّ الظلامَ يُوقِظ ما خبا في القلوبِ ويدفع العِميان لاستِبصَار الحقيقة.