كومبـــو - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:52 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كومبـــو

نشر فى : السبت 21 يناير 2012 - 9:20 ص | آخر تحديث : السبت 21 يناير 2012 - 9:20 ص

كلمة «كومبو» هى تعبير مشهور يتداوله مستهلكو الوجبات السريعة، ويحفظه أغلب من يتعاملون مع سلاسل المطاعم الكبرى المنتشرة فى كل مكان، يشاهد الناس الكومبو فى إعلانات التليفزيون، ويستقبلونه على الأوراق الملونة فاخرة الطباعة التى توضع بين صفحات الجرائد، ويطالعونه بحجم أكبر فى اللافتات الضخمة المضيئة وسط الشوارع والميادين.

 

يبدو المصطلح كما لو كان اختراعًا استهلاكيًا حديثًا، يمكن ضمه إلى المفردات الكثيرة التى تتردد دون أن نعرف لها أصلًا أو معنى، مع هذا فالكومبو كلمة قديمة فى حد ذاتها، استُخدِمَت فى أكثر من موضع ومقام؛ تشير المعاجم إلى أنها كانت تُطلَق على الفرق الفنية الصغيرة التى تقدم موسيقى الجاز بوجه خاص، كما أنها تُستَعمَل للدلالة على خليط من الأشياء غير المتجانسة، أو من الأشخاص المختلفين عن بعضهم البعض، وأحيانا أخرى تشير الكلمة إلى من يحملون ميلا جنسيًا مزدوجًا.

 

فكرة الكومبو فى الوجبات السريعة هى جمع كل الأصناف التى يمكن اعتبارها مثيرة للشهية، والتى تَعِدُ من يبتاعها ليس فقط بسد الجوع، بل بالشبع الأكيد: لحم مغطى بالجبن والتوابل والمخللات وشرائح الخضراوات وأشكال من الدهون الدافئة داخل خبز لين، بالإضافة إلى البطاطس المقلية، والمشروب الغازى، والسلاطة الممزوجة بمواد نصف سائلة، يزيد على كل هذا فى بعض الوجبات صنف من أصناف الحلوى. تجمع وجبة الكومبو عناصر متنوعة وجاذبة مقابل سعر أقل مما لو تم شراء كل عنصر على حدة، فكرة تداعب رغبة الناس فى الحصول على كل شىء بمقابل ضئيل وأحيانًا دون احتياج، والهدف بالطبع هو رفع درجة الإغراء وإنعاش المبيعات وتحقيق أرقام قياسية.

 

صممت أشهر المطاعم العالمية تلك الوجبات الجامعة، واستدعت وصف الكومبو ليعبر عنها، وروجت به لها، كما لو كانت هى منتهى الأمل للآكلين، الوجبة المثالية التى يتمناها كل فرد. حين يرفع العامل المسئول عن خدمة توصيل الطلبات إلى المنازل سماعة الهاتف متلقيًا طلبات الزبائن، فإنه يبادر بعرض الكومبو عليهم دون أن يطلبوه أو يستفسروا عنه، وكأنه يرشدهم عن اكتشاف هام أو يقدم لهم معروفًا، ويذكرهم بما هو أفضل لهم، ويدعمهم بمعلومة تصب فى مصلحتهم: أكل وشرب أكثر وثمن أقل.

 

بعيدا عن المذاق المركب والحجم المغرى، تتسبب تلك الوجبات فى إفساد عملية الهضم، فهى تجمع سعرات عالية ودهونا كثيرة وسكريات سريعة الامتصاص، وهى أيضًا تُضعِف من مناعة الجسم، كما أنها مسئولة عن إلحاق السمنة بملايين الأشخاص على مستوى العالم، ويطلق عليها بشكل عام «جانك فوود» junk food وهو ما يعنى حرفيًا الطعام القمامة أو الطعام الخالى من القيمة الذى لا يريده أحد، والتعبير ذاته يُستَخدَم لأى شىء قديم مهمل لا نفع له ولا فائدة، والحقيقة أنه غير مفيد فعلا لكن إقبال الناس عليه فى أنحاء العالم يتزايد يومًا بعد يوم، وتشير بعض الإحصاءات والدراسات الأمريكية الأخيرة إلى أن نسبة كبيرة من متناولى الوجبات السريعة فى الولايات المتحدة يشعرون بالسوء حيال اعتمادهم عليها، ورغم ذلك يعترفون بعدم القدرة على التخلى عنها. أظن أننا لا نختلف عن هؤلاء كثيرًا، فلدينا سلاسل المطاعم العالمية المعروفة التى لا تغلق أبوابها على مدى الأربع والعشرين ساعة وهى دائمًا مكتظة بالزائرين.

 

دون مقدمات كثيرة ولأن كل المقالات والانطباعات ما برحت مسجونة، تحوم داخل إطار الثورة، فقد خطر لى أننا نتعامل مع ثورتنا وهى بعد فى بدايتها كما نتعامل مع وجبة الكومبو التى تقدمها لنا السلطة يوميًا: «ثورة كومبو» كما الـ «تشيكن كومبو»، تعلن السلطة عنها وتروج لها، وتحثنا على الإقبال عليها رغم غثاثة ما تحويه؛ مكونات متناقضة لا أول لها ولا آخر، يحار الكثيرون فى التعامل معها، فبعضها يبدو حلو المذاق وبعضها مالح والبعض الآخر ــ وهو أغلبها ــ شديد المرارة؛ فى الوجبة حديث لا ينقطع عن الديمقراطية والنزاهة والانتخابات والبرلمان والدستور، وفى الوقت ذاته شهداء جدد ودماء واعتقالات ومحاكمات عسكرية وتعذيب وعنف مؤسسى هادر ومخز وتزييف إعلامى مفجع دون حدود. فى الوجبة أيضًا أمن وانضباط وسيادة قانون ودعاوى للعمل والنهوض وتحفيز على دوران عجلة الإنتاج، إلى جوار قوانين مستجدة مقيدة للحريات وحكومة ثورة برئاسة عتيقة وشباب لا يُرى سوى على قنوات التلفزيون دون أن يغادرها إلى أى موقع آخر سوى السجون. لا تخلو تلك الوجبة كذلك من دعوات للبناء بينما القلاع القديمة لاتزال فى أماكنها، مغروسة فى الأرض تُدَقُّ لتثبيتها الأوتاد.

 

الوجبة الكومبو هى باختصار نموذج للوجبة التى لا مناص من رفضها لأنها تتسبب فى إرباك الجسد، وبالمثل تفعل الثورة الكومبو ذات الثمن الرخيص، التى تبيعنا السلطة إياها، لا يمكن هضمها، ولا يمكن استخلاص احتياجات الناس منها. رفعت الثورة الفرنسية شعار الحرية والإخاء والمساواة وقدمت بحورا من دماء الفاسدين، بينما رفعنا شعارات الخبز والحرية والكرامة وقدمنا عينة من دماءنا نحن المقهورين على مدى سنوات، الثمن مختلف وشكل الوجبة كذلك.

 

إذا كانت السلطة قد تركت لنا قطعة ثورة، ومِلء قبضة يد من المخللات، ومشروبا باردا جدًا، فما نحتاجه الآن هو الفصل بين المكونات، وإلقاء الهامشى منها والاحتفاظ بالأصيل، ربما نقرر أن ننال الحرية أولًا بأى ثمن كان، ثم نصنع بها ما نشاء؛ نزرع منها خبزًا للجميع، ونفردها على الأرض لتطرح كبرياء وعدالة ومساواة. ما نحتاجه هو أن تكون ثورتنا ــ القادمة حتمًا ــ أكثر تركيزًا ووضوحًا، دون مشهيات وإضافات تافهة ودون دهون زائدة. هدف واحد، طعم واحد، رائحة نقية.. نصر كامل غال لا تلوثه شائبة، لا يقبل المساومات ولا التفتيت.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات