منذ شهور كنت فى زيارة إلى الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، وتجاذبنا أطراف حوار طويل، وسألته عن أسباب انتقاد الإعلام للأزهر، ولماذا دائما مناهج الأزهر يشار إليها بأنها تحوى أفكارا تحض على التطرف؟.
طلب من أحد الحاضرين من مكتبه أن يحضر نماذج من الكتب الحديثة التى تُدرس بالمدارس والمعاهد الأزهرية، فضلا عن كتب له شخصيا يٌستعان بها فى التدريس حول نقد التطرف، وأهمية الاجتهاد والتجديد، وطلب العلم والتطور.
عدت إلى هذه الكتب أخيرا، وأعدت قرأتها بشىء من التمهل، ووجدت فيها أفكارا مهمة، ومحاولة جادة فى الفكر الدينى لتأصيل قيم المواطنة، والمساواة، والعيش المشترك فى المجتمع، وهى مسألة ليست سهلة، خاصة فى ظل شيوع أفكار من التراث والفقه القديم تجافى هذه المفاهيم.
هناك بالتأكيد تطور فى مؤسسة الأزهر، نراه فى مناح عديدة: تجربة مرصد الأزهر لمواجهة التطرف والإرهاب، وثائق الأزهر حول الدولة الحديثة، والحقوق والحريات العامة، ومؤتمرات دورية تناقش قضايا العيش المشترك والمواطنة وقبول الآخر، وأخيرا صدرت جريدة «صوت الأزهر» فى صدر صفحتها الأولى الافتتاحية التى يكتبها الأمام الأكبر، ويقرأها جمهور الأزهريين، وكان موضوعها المواطنة التى تقوم على المساواة بين كل المواطنين بصرف النظر عن الاختلاف فى المعتقد الدينى، وقبلها حديث تليفزيونى رفض فيه الدكتور أحمد الطيب إطلاق وصف «أهل الذمة» على الأقباط، كما رفض أيضا اعتبارهم «أقلية»، بل تمسك بمصطلح المواطنة بوصفه الإطار الجامع لكل المصريين.
بالطبع ليس الأزهر، المؤسسة التى يزيد عمرها عن ألف عام، مثالية أو خالية من النقائص. المؤسسات المصرية جميعها ظهر عليها الوهن فى السنوات الأخيرة نتاج عقود من التمدد البيروقراطى غير الواعى، والتوظيف السياسى، وغياب عوامل التطوير المؤسسى. يدرك ذلك الباحثون فى مجال الإدارة العامة، والسياسات العامة، والتنمية السياسية، خاصة إذا قارنوا حال المؤسسات هنا بأداء المؤسسات فى مجتمعات أخرى تتمتع فيها الدولة باللياقة والحيوية والانضباط.
النقد مطلوب للتحديث، لا أحد يضفى عصمة على أى مؤسسة، ولكن من المهم أن يكون النقد دافعا لتطوير المؤسسة، وليس لهدمها أو خلخلة بنيانها. الإشكالية فى رأيى أن الدكتور أحمد الطيب، تولى مشيخة الأزهر فى عام 2010، ومنذ ذلك الحين، والمجتمع يموج بتغييرات عاصفة، انقلبت السياسة مرتين رأسا على عقب عامى 2011 و2013، وتصاعدت خطابات الغلو والتطرف، ونشط الإرهاب، وعلا صوته فى العديد من الدول العربية.
أطراف كثيرة متناقضة تريد أن ترى الأزهر على مقاسها، يسير فى ركابها دون النظر إلى وضعه وتراثه، بما فى ذلك جماعات التطرف التى تتهمه بالتفريط فى الدين، كما ظهر فى شريط الفيديو الأخير الذى قامت «داعش» ببثه حول الحادث الإرهابى بالكنيسة البطرسية. مسألة محيرة بالفعل أن يرى البعض الأزهر لا يحارب معركة التطرف كما ينبغى، فى حين يرى المتطرفون أن الأزهر تحول إلى شوكة فى ظهورهم. المعنى المستخلص من هذا التناقض أن الكل يقر بثقل مؤسسة الأزهر.
من هنا فإن دعمها مطلوب، والحوار الجدى معها أفضل من حصارها المستمر بالنقد، الذى يختلط فيه الحابل بالنابل، وتختلف حوله المصالح.