منذ أكثر من عشرين عاما سعيت لشراء قطعة رخام كنت بحاجة إليها، فقادنى صديق إلى إحدى ورش الرخام القريبة، لكنه قال لى إن صاحبها شخص جاف، حاد الطباع، لا يريد أن يتعامل معه، وتركنى بمفردى. دخلت الورشة، فأشار لى أحد العمال إلى مكتب صاحبها. طرقت الباب، ودخلت، فوجدت شخصا يجلس على مكتب، وأمامه كتب عديدة متراصة من بينها كتب للأستاذ محمد حسنين هيكل، رمقنى بنظرة سخيفة تكشف عن شخصيته غير الودودة، فبادرته بالقول: هل تقرأ للأستاذ هيكل؟ فرد باقتضاب: عندك مانع. قلت له: بالتأكيد لا، فهو كاتب سياسى رفيع المستوى، لكن هناك من يختلف معه. عدل من نظرته لى، ودعانى إلى الجلوس، ودار بيننا حوار متصل لنحو ساعة تخلله كوب شاى، بينما صديقى يقف على باب الورشة قلقا. وبعد فترة من الأخذ والعطاء، سألنى عن المطلوب. فقلت له إننى أريد قطعة رخام، أعطيته المقاس، طلبت منه معرفة تفاصيل عن النوع، والسعر، وما شابه فرفض، وطلب منى أن أحضر بعد أسبوع. ذهبت إليه فى الموعد المحدد فوجدت قطعة فنية بديعة من الرخام، قال لى إنها تماثل قطعة رخام فى شقة ابنته، وأتذكر أنه طلب منى سعر التكلفة فقط، وهو يقول لى: إننى أجلس فى ورشة الرخام طوال اليوم، نادرا ما أجد من يتحدث معى فى الثقافة مثلك.
واضح أن هذا الشخص، وأمثاله كثيرون، يثقفون أنفسهم بأنفسهم، ربما هو نتاج مراحل تاريخية سابقة كان بها حراك اجتماعى وثقافة، أما القطاع العريض من الجمهور العام، فهو نتاج تعليم بائس، وثقافة ضحلة، وإعلام ترفيهى بامتياز. تثقيف هذا الجمهور من غير المتخصص مسئولية المثقف، بل هى مسئوليته الأساسية، فهو لا يمتلك الثقافة لنفسه، بل لإثراء الوعى الثقافى للناس.
منذ عدة أيام طرحت ندوة عقدتها مكتبة الإسكندرية فى بيت السنارى بالسيدة زينب، أى فى قلب أحياء القاهرة القديمة المزدحمة، سؤالا مهما: كيف نكتب التاريخ للجمهور العام؟ وتطلبت الإجابة عنه بالطبع استدعاء قضايا عديدة تتصل بهوية من يكتب التاريخ، وكيف يقدمه، وفلسفة التاريخ، وهل الرواية والعمل الفنى والمقال الصحفى يقدم التاريخ بصورته الحقيقية، وماهية الصراع بين المؤرخ المحترف والكاتب الهاوى فى حقل التاريخ؟ وجميعها أسئلة مشروعة، لكنها لا تقتصر على الكتابة التاريخية، وتمتد إلى سائر حقول المعرفة، ويصبح ــ مشروعا أيضا ــ السؤال عمن يكتب السياسة والاقتصاد والاجتماع والطب للجمهور العام، الذى هو بحكم التعريف غير متخصص، لكنه يبحث عن المعرفة والوعى.
هذه إشكالية المعرفة الرئيسية من وجهة نظرى، لأن المتخصصين يجلسون فى القاعات الدراسية، ويكتبون فى الدوريات العلمية فى موضوعات تخصهم، ويطرحونها بلغة يفهمونها، أو يزايدون بها على بعضهم بعضا، ولا يضعون فى اعتبارهم الجمهور العام أو الناس العادية من غير المتخصصين. وهناك قليل منهم، أعنى أساتذة الجامعات والباحثين، من استطاع أن يقترب من الناس، ويرسى جسور حوار معهم، ويطرح القضايا عليهم بلغة بسيطة، سهلة ميسورة، تبسط لهم المعرفة، وتبنى لديهم الوعى. ولكنهم جميعا نتاج بناء ثقافى رصين، على وعى بقضايا الوطن، والإنتاج الأدبى والثقافى، والأحوال العامة، مما جعلهم على إحاطة وموسوعية، وقدرة على الكتابة للناس، ومخاطبة همومهم.
أتذكر أن رئيس وزراء الهند طلب، بل ألزم، أساتذة الجامعات بكتابة مقالات دورية فى الصحف السيارة للجمهور، ونحن نريد أن ينشأ جيل من الأكاديميين يكتبون للناس، ولا يكتبون لأنفسهم، يتفاعلون مع قضايا المجتمع، ولا يقبعون فى غرف، لا يمتد تأثيرها خلف أبوابها المغلقة. ولكن قبل كل شىء ينبغى أن يكون هؤلاء مثقفين، وليسوا أسرى تخصصات ضيقة.