تضع رواية (تاريخ آخر للحزن، دار ميريت 2020 ) مؤلفها الكاتب أحمد صبرى أبو الفتوح فى مكانة مستحقة بين أبرز الروائيين المعاصرين، فبعد ملحمته الروائية (السراسوة) التى صدرت فى عدة أجزاء تأتى هذه الرواية لتقول ببساطة أن صاحبها ينتمى إلى كتاب الرواية الكلاسيكية الذين يعتمدون على الحكاية.
وعادة ما تكون هى البذرة التى يتمكن الروائى معها من رسم مصائر متعددة لشخصيات رواياته التى تتشابك أو تنفصل عبر السرد، كأنما هى أوراق لشجيرات تخلق غابة كبيرة أو هى خيوط ودوائر فى نسيج حريرى ناعم.
تقرأ رواية أبو الفتوح كما نستمع إلى «سيمفونية» قوامها (الإنشاد الجماعى) وتبنى السيمفونية عادة من أربع حركات، لإدراك التناغم بين الأصوات المتتابعة والمتزامنة، وتبدأ بحركة سريعة على نمط (سوناتا) ثم تليها حركة ثانية بطيئة، ثم يتبعها حركة ثالثة إما تكون على نمط المنويت (minuet) أو على نمط ثلاثى (Ternary) ــ (بالإنجليزية: scherzo) ــ ثم تختتم السيمفونية بحركة سريعة على نمط روندو (بالإنجليزية: rondo) أو سوناتا أو الإثنين معا.
ولو أردنا القياس على هذا المثال لوجدنا المشهد الافتتاحى للرواية يؤدى غرض السوناتا فهو افتتاحية خاطفة تضع القارئ مباشرة أمام العالم الذى ينتظره حيث نعايش حالة الخذلان العام التى أعقبت انكسار ثورة عرابى وفيه نعاين زوجة تنتظر زوجها فتح الله النوسانى الذى كان قبل حرب العرابيين عاملا فى وسية آل عابدين لكنه شارك فى الحرب «لكى نكون أحرارا فى بلادنا» ولما فشلت الثورة فقد مع المفقودين ومع دخول الإنجليز حدث هرج ومرج فى بعض القرى وهج السكان وشاعت مظاهر الفوضى والمجاعة بحيث لم تجد الزوجة ما تطعم به ابنها وبينما هى جالسة تفكر فى حل مرت أمامها كلبة وأمام كسرة النفس حاورتها واشتكت لها جوع طفلها ومضت الكلبة خلفها وشجعت أثداؤها الممتلئة، الأم على أن تترك ثدى الكلبة لفم ابنها.
بعدها وجد أهل القرية الجائعة بقرة ميتة تشجع أهلها على الأكل من لحمها ودخلت حلاوية السرايا التى كان يعمل فيها الزوج وأخذت منها طواجن وشاركت شيخ المسجد (حسنين اللهفة) توزيع لحم البقرة وعندما دخل الإنجليز لعقاب القرية افتدت حلاوية أهل قريتها ومعها الشيخ وربطهما الإنجليز فى نافذة الجامع الذى بناه منجى بانى المساجد الذى استوطن نوسا البحر وبعد أن يئس الانجليز من الحصار تركوا القرية ليتولى الشيخ شهاب الدين رسلان الإشراف على شئون الوسية التى صارت بعد سنوات قليلة ملكا لـ«آل رسلان».
بعد هذا المشهد الافتتاحى الآسر فى نزوعه الغرائبى الذى يتأكد فى مشهد دفن العم عبدالمولى قبل الختام تتوزع عبر صفحات الرواية بقية الحركات الثلاث فى سيمفونية الوجع التى ينسجها أبو الفتوح متتبعا مصائر سلسال هذا الثلاثى ويؤدى نسل ال رسلان أدوار السادة فى حين يؤدى نسل حلاوية واللهفة أدوار العبيد.
وعبر الصفحات ينهمر نهر الحزن دون انقطاع، ولا يتمكن القارئ من استجماع خيوط اللعبة إلا عند بلوغ مشهد النهاية المكتوب بحركة سريعة قريبة من نمط (روندو) فى الموسيقى.
نعرف من سير الروائيين كيف تتكرر عبارة: «على الروائى أن يكتب ما يعرفه» ويكاد قدر أبو الفتوح أن يكون هو الكتابة عن عائلات «أعيان» الريف. وهو هنا يكرر شغفه بهذا العالم لكنه يخلق بطلا مغايرا وثيق الصلة بذاكرته الشخصية، وهو المحامى منجى رسلان المتمرد على انتماء والده عبدالباسط رسلان للوفد فهو محب لزعامة جمال عبدالناصر والمنحاز لقراراته التى سلبت منهم بعض الأملاك.
ويأخذه مصيره للوقوع فى حب معالى حلاوية التى كانت خططت للمجىء إليه وهو فى ختام أعوامه الخمسين.. جاءته فى الظاهر لتعمل خادمة وفى الباطن كانت تنوى الانتقام لجدتها (سيادة) التى أغرمت بوالده الذى زوجها لسائقه لينفرد بها متى شاء لكنه شغف بـ«روح الفؤاد» التى تزوجها دون أن يدرى انها كانت تحب ابنه حافظ.
جاءت معالى لتنتقم وهى تحمل فوق ظهرها تاريخا من الألم الجسدى وطفلتين من حمل سفاح نتيجة قهر متواصل ومتأصل وتحت سطوة جمالها الآسر وخبرتها تنجح فى إقناع (منجى) بالعودة إلى سرايا العائلة فى نوسا البحر لتنظيفها وهناك تؤدى فى مسامراتها معه نفس الدور الذى كانت تؤديه شهرزاد فى (ألف ليلة وليلة) لكنها تستعيد سلطة الحكاية وتنوب عن (مسرور) فى تأدية دور الجلاد وتجلد سيدها الذى يتورط معها بسوط الحكايات المستمدة من أرشيف (القهر).
لا يعرف منجى كيف عرفت خادمته كل تلك الحكايات لكنه يستسلم لغواية الحكى والخلاص من تاريخ عائلته الذى يعذبه فهما شريكان فى لحظة الخلاص ونزع الأقنعة.
تقول معالى إن «الحزن يجعل القلب قويا» لتبرر سلوكها أمام سيدها وعشيقها وتحول الرسائل التى أوصت بها سيادة لحفيدتها (معالى) إلى وثائق (لعنة) تشهرها لتشعر بـ«لذة الانتقام» من منجى، فالسرايا التى كانت مصنعا للقهر أضحت بيتا الأشباح ليس فيها إلا (هزيم) يعيد الخوف إلى الأذهان والماضى الآثم يأبى ألا يستيقظ من القبو، والأوراق كلها عناوين لكسرة القلب.