مع بداية الثورة الصناعية وإنشاء العديد من المصانع فى المدن احتاجت تلك المصانع لآلاف العمال للعمل اليومى الشاق وجذبت تلك المصانع هؤلاء العمال من المناطق الريفية المجاورة. وهو ما نتج عنه التكدس المهول للسكان وتردى أوضاع بيئة السكن بالإضافة إلى تردى أوضاع بيئة العمل والفوضى المرورية وقلة مراعاة الأنظمة الصحية إلى وضع غير مسبوق... وهو ما وصفه الكاتب «بيتر هول» عند حديثه عن لندن فى كتابه الأشهر «مدن المستقبل» بأنها «مدينة الليل المرعب».
أدى تكرار وباء الكوليرا الذى أودى بحياة الكثير إلى التساؤل عن أسبابه ومصدره حتى نجح جون سنو فى عام 1847 فى ربط الوباء ببئر لمياه الشرب تسرب إليه ماء صرف ملوث، وهو ما أثبته بعد ذلك بأعوام قليلة العالم «لويس باستور» عن طريق التعرف على الجراثيم الموجودة فى الماء الملوث والمسببة للوباء. وأصبحت المعرفة الطبية المتطورة المرجع لضرورة تنقية مياه الشرب ولضرورة التخلص الآمن من مياه الصرف بعد معالجتها. وانتشرت تلك المعرفة فى مدن أخرى التى شهدت وضعا مماثلا مثل باريس وغيرها. وبدأت ابتكارات مثل شبكات الصرف الصحى العام ومحطات تنقية المياه وشبكاتها التى توصلها للمساكن فى الانتشار.
***
فى مصر كان التغلب على الروائح الضارة الناجمة عن الجفاف المؤقت لبرك المياه وقت انخفاض منسوب النيل فى القاهرة ربما وراء قرار «محمد على» بردم البركة وتحويلها إلى حديقة فى أربعينيات القرن التاسع عشر. ولكن التحول الكبير حدث كما كتب «خالد فهمى» عندما لحق «على مبارك» ناظر الأشغال العمومية بالخديو إسماعيل فى باريس وأبهرته «شبكة المجارى العظيمة» التى بناها هاوسمان أسفل كل شارع، والتى جعلت من باريس مدينة صحية ذات رائحة عبقة وهواء نقى.
بعد عودته للقاهرة عمل «على مبارك» مع غيره من القائمين على المدينة من مهندسين ومعماريين وأطباء على تدعيم خدمات الصحة العامة. وكان من نتاج هذا الاهتمام بالصحة العامة العمل بجد ونشاط على القضاء على منابع المرض ومرتع الأوبئة، وكان من أهم هذه المخاطر الخليج المصرى الذى كان يشق المدينة من الجنوب للشمال والذى كانت تتحول مياهه لمستنقع آسن متعفن بعد انحسار فيضان النيل كل عام، وبالتالى رُؤى ضرورة تجفيفه وتحويله لشارع عظيم (شارع الخليج الذى أصبح بعد ذلك شارع بورسعيد)».
وفى حواره مع الباحث «شهاب فخرى» عن رسالته للدكتوراه عن «هندسة المدينة: الوباء ورأس المال» يظهر أن مشروعات تطوير القاهرة والاهتمام بالصحة العامة أحد دوافعها وباء الكوليرا الذى حدث فى ١٨٨٣ و١٨٩٥ ــ ١٨٩٦ و١٩٠٣. فى هذه الفترة أيضا ومنذ تولى محمد على الحكم شهدت مصر إجمالا والقاهرة خصوصا نموا كبيرا فى السكان كما تظهر البيانات الإحصائية. لاشك أن الوضع الاقتصادى والسياسى لمصر فى الوقت الذى قاد فيه «على مبارك» التغييرات الرئيسية فى عمران القاهرة جعل الاستجابة لتحديات الصحة العامة أحد المؤثرات الرئيسية لتطوير عمران القاهرة ولكنه لم يكن الوحيد بالطبع.
***
نتساءل الآن عن كيف يتمكن سكان مناطق عديدة فى مصر من تطبيق أبسط ما يتطلبه التعامل مع وباء كوفيد ١٩ وخاصة فيما يتعلق باستخدام الماء لغسل اليدين باستمرار؟! من خلال دراستنا لمدن ومناطق متعددة فى مصر السنوات الخمس الماضية كان الماء أحد التحديات الرئيسية التى نحاول أن نفهم أبعادها كى نتمكن من اقتراح حلول مستدامة للتعامل معها. قمنا من نحو سنة بدراسة منطقة ميت رهينة وما لاحظناه هو وجود عدد من المحطات الأهلية لتحلية المياه التى تحصل عليها من آبار جوفية وتقوم بمعالجتها باستخدام مجموعة من المرشحات ثم تبيعها للأهالى. قدرت إحدى طالباتى أن نسبة من لديهم مشكلات فى الوصول لمياه آمنة قد تبلغ الثلث. رأيت بنفسى محطات أهلية للمياه فى مناطق أخرى بريف القليوبية وقرأت عن انتشار مثل تلك المحطات فى قرى الدلتا. كما استمعت لشكوى سكان بعض القرى المجاورة لمدينة رشيد من انقطاع وصول المياه لفترات كبيرة. فى مدينة القصير هناك شكوى مستمرة منذ سنوات من جودة المياه المتاحة (يمكن طبعا تصور أن تقوم القرى السياحية فى نطاق المدينة بتوفير المياه المنتجة من محطاتها لمواجهة توقف النشاط السياحى الآن وهو ما يمكن أن يكون مساندة مهمة لسكان المدينة، ويمكن أن يكون شرطا لدعم الحكومة تلك القرى كى تعاود النشاط بعد انتهاء الأزمة). هذا طبعا بخلاف انعدام الصرف الصحى العام فى جزء كبير من القرى والمناطق غير الرسمية طبقا لإحصاء الجهاز العام للتعبئة والإحصاء.
الهواء والماء والتربة الطبيعية هى ما نستطيع من خلالها أن نتنفس وأن نشرب وأن نأكل وهذا الثلاثى من أهم الأنظمة الطبيعية التى نعتمد عليها للبقاء ومن الضرورى الحفاظ عليها وتركها للتجدد بمساعدة من التنوع الطبيعى الغنى، أو ما يسمى بالتنوع الحيوى، المسئول عن وجود جميع أنواع الكائنات وخاصة الدقيقة والتى تؤثر على جودة التربة والنباتات والتى بدورها تؤثر على المياه والهواء، والذى تدهور سريعا فى العقود الماضية ليس فى العالم فقط بل وفى مصر أيضا ويحتاج إلى استعادة عافيته بصورة عاجلة وملحة.
كان لتدخل الإنسان خاصة من بداية الثورة الصناعية والذى بلغ ذروته بعد الحرب العالمية الثانية ــ بالرغم من أنه فى الأغلب كان يستند لتقنيات وقاعدة علمية ــ أثر سيئ على الأنظمة الطبيعية. وفى السنوات القليلة الماضية والآن بدأ يظهر لنا بوضوح أن الأساس العلمى والتقنى فى ذلك الوقت لم يُراعِ التركيب المعقد للأنظمة الطبيعية وطبيعة التأثير المركبة حتى للتدخلات التى كان هناك تصور بأنها لا تحمل أهمية إحصائية. وكما يظهر تقرير البنك الدولى فى نهاية العام الماضى أن تكلفة تلوث الهواء والمياه فى القاهرة محسوبة بمدى ما يسببه من خسارة اقتصادية مباشرة أو غير مباشرة نتيجة الأمراض المرتبطة بهما بنحو ٤٧ مليار جنيه سنويا، مع تحفظ خاص بالماء نظرا لارتباطاتها المتشعبة والتى ربما نتيجة لذلك قد تكون تكلفة تلوثها أعلى.
يظهر لنا الوباء الحالى وبصورة حادة محدودية قدراتنا أمام الطبيعة وأننا بحاجة لفهم الطبيعة من حولنا بصورة أفضل كثيرا. وربما نستطيع من خلال تدبر جيد للأنظمة الطبيعية وما تسببت فيه تدخلاتنا تعديل مسار بيئاتنا التى نعيش فيها بالصورة التى تمكن الأنظمة الطبيعية من التجدد والتعافى وتمكننا من النجاة والحياة الكريمة التى تتبع إيقاع الطبيعة. وفى جوهر محاولاتنا تلك التى ستتطلب الكثير من العلم والعمل والنقاش يجب إدراك أن تحقيق التعايش المستدام مع الطبيعة لن يتحقق باستبعاد أى إنسان.. «لن يكون أحد فى مأمن ما لم نكن جميعا فى مأمن» كما قال الأمين العام للأمم المتحدة منذ أيام قليلة.