كتاب ممتع، ثرى وعميق، تأخرت كثيرا فى التعليق عليه، رغم وجود نية مبكرة لذلك. الكتاب هو «تراث الاستعلاء بين الفولكلور والمجال الدينى»، تأليف الدكتور سعيد المصرى، عالم الاجتماع، الذى عودنا على الانشغال بطرح أسئلة غير تقليدية، وليس الدوران حول الأسئلة «النمطية» التى ينحصر فيها بعض المشتغلين بعلم الاجتماع. فى هذا العمل الموسوعى يقترب المؤلف من قضية مهمة هى «الاستعلاء»، الذى يعشش فى ثنايا الفولكلور والفهم الدينى، ويكرس التمييز والتعالى بين الناس بمقتضى اختلافهم، وما يرافق ذلك من روح التعصب والتطرف والكراهية، ويصبح فى ذاته إحدى أدوات، ومسوغات ممارسة الهيمنة فى المجتمعات بأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية.
الاستعلاء معضلة أساسية تتعلق بالبناء الثقافى والاجتماعى الذى يحتاج إلى تشريح حتى نتبين الأمراض الأساسية فيه. هناك استعلاء بدائى تعرفه المجتمعات الأولية مثل استعلاء الرجل الأبيض على ما عداه، أو استعلاء طبقى يتمثل فى التمييز الذى يمارسه الأغنياء فى مواجهة الفقراء، ولكن الأخطر هو الاستعلاء الدينى. وقد أفاض المؤلف فى تحليل الاستعلاء فى خطابات وممارسات التيارات الإسلامية باختلاف مساراتها، ومناحيها، وقد بات جزءا من البناء الفكرى لها. إنه استعلاء «الايمان» الذى كرسته فى المجتمعات العربية على مدار عقود فى مواجهة الأغيار المختلفين، وتوغلت فى مؤسسات التعليم والثقافة، ونازعت مؤسسات التنشئة الأخرى، أو استقرت فيها، وسعت إلى تغيير بوصلتها. ويُعد الاستعلاء مفهوما أصيلا فى تكوين هذه التيارات، رغم تعدد أشكالها ومسمياتها، ويعنى باختصار أنهم على حق وهدى والأعلى فى المنزلة، بينما الآخرون على باطل، وضلال مطلق، والأدنى فى المكانة، ولابد أن ينتهى الأمر بالتمكين من مقاليد المجتمعات. وفى الوقت الذى يرفض فيه الدكتور سعيد المصرى مصطلح «تجديد الخطاب الدينى»، يطرح مصطلحا بديلا هو «إعادة صياغة الفكر الدينى»، من خلال النظر فى البنية العقلية التى تنتج الخطاب الدينى ذاته، واقترح أربعة مجالات أساسية هى قيمة الحرية والتعددية مقابل قيود الواحدية والتسلط، والتسامح فى مواجهة التعصب، والسعادة وحب الحياة مقابل الإفراط فى الخوف من الموت، والعدل فى مواجهة الظلم والتفاوت بين الناس.
يمثل الكتاب مقاربة مهمة على صعيد المفاهيم فى وقت نعانى فيه من ندرة علماء الاجتماع الذين يسعون إلى تأصيل الأفكار، والتصدى للأمراض الكامنة فى البنى الاجتماعية، والتى تحدد مسارات السلوك الفردى والجمعى، ذكرنى هذا الكتاب، الذى غلبت عليه سلاسة اللغة وعمق الأفكار، بكتاب «مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» لمؤلفه العالم اللبنانى الدكتور مصطفى حجازى، واتجه خلاله إلى تحليل بنية المجتمعات التى لا تزال تتعلق وتتماهى بالمستعمر الأجنبى، الذى رحل عنها، لكن ترك بداخلها الأفكار التى لا تزال تربكها إلى الأيام، وتشيع التناقضات فى بنيتها الاجتماعية والثقافية. هذا ما فعله الدكتور سعيد المصرى، عندما اشتبك مع البنية الاجتماعية سواء بشقيها الفولكلورى والدينى، وغاص فى عمق المفاهيم الكامنة فيها، ومن بينها مفهوم الاستعلاء. ما حاجتنا إلى هذه النوعية من الكتابات، وإن دار نقاش نقدى حولها، حتى نتذكر دائما أن إصلاح الأحوال أعمق بكثير من مجرد تغيير المسميات.