فَـــكَّ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:23 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فَـــكَّ

نشر فى : الجمعة 21 أبريل 2023 - 8:00 م | آخر تحديث : الجمعة 21 أبريل 2023 - 8:00 م
هلَّ صديقٌ كَشِرًا كئيبَ الطلَّة، يحمل من الهمَّ أطنانًا، ولم تكن الأسبابُ بخافيةٍ على أحد، فمع كلّ تراجع جديد لسعر العملة، تسقط مجموعاتٌ من البشر تحت خطوطِ الستر، وتصبح في خبر كان، ولما كانت الأيدي عاجزةً عن المُساندة والمُساعدة؛ لم يعد سوى تطييب الخواطر وإعلان المشاركة وإبداء المواساة.
تلقاه صديقٌ آخر بربتةٍ على الكتف المُتهدل وغمغم قائلًا: فُكَّها وسِبها على الله.
• • •
يرد الفعل فَكَّ في قواميس اللغة العربية بمعنى حَلَّ، الفاعل فاكٌّ وهو شديد الحمق من الرجال، والمفعول به مفكوك، أما "ما انفك" فمن أخوات كان التي تفيد الاستمرار، ترفع اسمها وتنصب خبرها؛ لكن عملها هذا لم يعد ثابتًا، فكثيرًا ما يتعثر الواحد أثناء القراءة ويفقد انسيابية المعنى؛ إذ تتبعثر علامات الضبط بلا حساب، فتنصب المرفوع وتكسر الأعناق.
• • •
يمسك واحد بتلابيبِ آخر ويكور هذا قبضتَه وتعلو الأصواتُ، ثم يتدخل الناسُ لفَكّ الخناقة، وغالبًا ما تعود المياه إلى مَجاريها خلال دقائق، ويتصافى المتعاركون. بعضُ المرات يحدث العكس، فينقسم الحاضرون ويصنعون فريقين، وإذا بالأمور تشتعلُ ليصبح فكُّ الاشتباك عسيرًا.
• • •
في أيامِ الطفولةِ كانت القصصُ التي تحمل إلينا مغامرات مشاهير الأبطال عاملَ جذبٍ لا يُنكَر، نتسابق على قراءتها فور صدورها، نهفو إلى فكّ اللُّغز وسَبر أغوارِه المُستعصية، وإلى مَعرفة النهايةِ قبل أن نصلَ لمُنتصفِ الكتاب. مُعظم أعمال الدراما في وقتنا الحالي تتمتع بالوضوحِ التام، يعرف المُشاهد أحداثها ونهايتها قبل أن يُكملَ الدقائقَ الأولى، ولا يتبقّى له إلا الاستمتاع بالأداء إن كان مُميزًا، وبالتصوير والإخراج إن كانا على مُستوى عال؛ وقد صار هذا وذاك من النوادر.
• • •
إذا لاذ واحد بالهَربِ قال: يا فَكيك، والكلمةُ لا تَرِد في المَعاجم اللُّغوية؛ لكنها مَفهومةٌ عبر السياقِ والاستخدام، والقصد استغاثةٌ يعقبُها انسلاخٌ سريع من المَوقِف والمكان، عساه يُمنى بالنجاة. من المشتقات الشائعة التي لا ترد بدورها في المعاجم، تلك المفردة التي تصفُ امرأةً تمايَلت في دلالٍ، وعلَّق الحاضرون على مشيتِها وخطوتِها فوصفوها بأن "وَسَطها فاكِك"، والقصد ما أظهرت مِن ليونةٍ في الحركة؛ ربما امتدَّت لتصرُّفها وانعكست على مَسلكها.
• • •
بعضُ المرات يَنصح الناسُ شخصًا بالابتعاد عن آخر وعدم السماع له قائلين: فُكَّك منه؛ أي لا تتعب نفسَك معه، ولا تأخذ قوله على مَحمَل الجَد. التعبير مُوجزٌ بَليغ، فالفكُّ هنا يشير إلى انسلات من عَلاقةٍ توشك أن تبدأ، والمَرءُ إذ يَفكُّ نفسَه فمجازٌ طريف، وحلٌّ يبدو سهلًا هينًا.
• • •
لا يخلو بيتٌ من مفكّ؛ تلك الأداةُ الساحرةُ التي لا يقتصر استخدامُها على رَبطِ المسامير أو حلِّها، بل يمتدُّ إلى فَتح كلّ ما استعصى مِن ضُلفٍ وأبواب، وثَقْب ما تطلَّب من أغراضٍ ومَواد، وغيرها من أهداف جانبيةٍ؛ لم تمُر غالبَ الظنِّ بذهنِ مَن اخترع المفكَّات.
• • •
إذا شرع امرئٍ في ارتكابِ تصرُّفاتٍ عجيبةٍ لم يأتِ بمثلِها مِن قَبل، وتحوَّل سلوكُه إلى ما يلفتُ النظرَ ويثير الدَّهشة؛ قيل إن صواميل مُخّه فَكَّت، والقصدُ أن شيئًا قد استجدَّ عليه بلا جدال، فليست تلك عاداته ولا سماته، وإن تبدَّلَ بلا سابق تمهيدٍ أو إنذار؛ فثمَّة ما أربك كيانَه وما قَلبَ ميزانَه، والحقُّ أن صواميلَ كثيرةً في الرءوسِ قد طارت من أماكنِها، وفَقَدَ عديد الناسِ معها رزانتَهم ووقارَهم؛ فالأوضاع التي تتهاوى بسُرعةِ الشُّهُب والتي تُرشّحها توقُّعاتُ أهلِ الخِبرةِ والعِلم لما هو أسوأ؛ لم تترك أحدًا على ثباته.
• • •
لا تسلو الذاكرةُ القديمةُ فيلمَ "الفكّ المُفترِس"؛ أحد أبرز أفلامِ السينما العالمية في حينِه، وأكثرها إحداثًا للضَّجة. شاهدناه في رُعبٍ وتَرقُّبٍ أطفالًا، وراودتنا الكوابيسُ حولَه مِرارًا، ثم إذا بنا نضحكُ منه كبارًا بالغين، خاصة بعدما تحوَّل واقعنا إلى فَكٍّ أشرس وأعتى افتراسًا. عُرِضَ الفيلمُ عام ألف وتسعمائةٍ وخَمسةٍ وسَبعين، وأخرجه ذائع الصّيتِ وافر الشُّهرة ستيفن سبيلبرج، وقد مثَّلت القِصَّةُ حينذاك فاتحةً لسِلسِلة من الأفلامِ الشبيهة؛ لكن الانطباعَ الأولَ وما حَمَلَ من انبهار؛ دام للفيلم الأصليّ.
• • •
تحتلُّ تعبيراتُ فكّ العُقَد وجَلب الغائبِ مكانة أثيرةً في الدراما الشعبيَّة، فلئن تعقَّدت الأمور ولم يتأت حلُّها بالطُرق العاديةِ التي يُقرُّها المَنطقُ والعِلم؛ كان اللجوءُ إلى الدَّجلِ والسّحر بديلًا. بعضُ المرَّات يتحقَّق المَطلوبُ، فيتأكد الاعتقادُ في أعمالِ الشعوذةِ ويَرسخ رغم لا مَعقوليته، والسببُ في العادةِ أن للإيحاءِ قوةً لا يُستهانُ بها، وأن قُدرةَ المَرءِ على إقناع نفسِه بما يشتهي لا حدود لها.
• • •
تتوارد إلى الذهنِ ما ذُكِرَ الفِعلُ فَكَّ، تلك الأحداثُ المُؤسية التي تَجري في نطاقِ الأرضِ المُحتلَّة؛ حيث الحقوقُ مُنتزعةٌ من أهلِها، والمَطالبُ أزليةٌ مُزمنةٌ. فكُّ القَيد وفكُّ الحِصار والتحريرُ من الأسر؛ أهداف للحقِّ مُتواضعة، لكنها لا تجد مِن أصحابِ الشأن سوى المُناشدات.
• • •
إذا درس الواحدُ نُتفةً من مَبادئ الُّلغة، فتمكَّن من القراءةِ وإن بصُعوبة؛ قيل إنه يفُكُّ الخَط. نسبةٌ تُؤخَذ بعينِ الاعتبار مِن تلامذةِ المَدارس وخِريجيها تنتمي إلى فئة مَن فَكَّوا الخَطَّ، ثم توقَّف تحصيلُهم وتعطَّل. يقرأون بصعوبةٍ وبعضهم لا يكاد يكتبُ اسمَه سليمًا، بينما يتصوَّر المسئولون أن استعمَالَ الأجهزةِ الإلكترونية في التعليمِ وأثناء الاختبارات؛ هو التطويرُ بعينه.
• • •
نستخدمُ كلمَةَ "فَك" بمفردها في إشارةٍ مُختصَرَة لعِلَّة أصابت شخصًا ما، فإن قيل "فلانٌ فَكّ" فالمعنى أنه فقد استبصاره بالواقع، وتخلَّى عنه حسنُ إدراكِه الأمور، وتراجعت قُدرتُه على تمييزها. الاستخدامُ شائع مُتعارَف عليه، واختزالُ الشرح المطول في مُفردةٍ واحدةٍ مِن عبقريةِ مُتداولي اللغةِ وأهلها.
• • •
في عهودٍ سابقة، كان المَرءُ يحملُ النقودَ الصَّحيحة مثلما يحملُ الفَكَّةَ، دار الزمانُ وتحوَّلت النقود الصَّحيحةُ نفسُها إلى مُجرَّد فكَّة؛ لا تشتري ما يَسدُّ الجُّوعَ أو يُسكّنه.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات