إشكال قراءة التراث.. وبزوغ نجم «الجابرى» - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 7:51 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إشكال قراءة التراث.. وبزوغ نجم «الجابرى»

نشر فى : السبت 21 مايو 2022 - 7:40 م | آخر تحديث : السبت 21 مايو 2022 - 7:40 م
ــ 1 ــ
من بين كل من تصدوا للإجابة عن سؤال: ما التراث؟ وكيف نقرأه؟ وكيف نتسلح معرفيا لهذه القراءة؛ كان اسم المفكر المغربى الراحل محمد عابد الجابرى ضمن المجموعة الأبرز والألمع من مفكرى وناقدى عالمنا العربى الذى قدموا إسهاما معتبرا فى هذه الدائرة المعرفية الشائكة.
فى مقال الأسبوع الماضى عرضنا سريعا للتعريف بمشروع الجابرى الكبير فى «نقد العقل العربى» الذى تشكل وتكون فى رباعية ضخمة عبر ما يقرب من عشرين سنة.
وفى هذا المقال نحاول أن نكشف عن السياق المعرفى والتاريخى الذى بزغ فيه نجم محمد عابد الجابرى كمحلل وناقد معرفى للتراث، يكشف عن أنظمة المعرفة وأنساقها فى التراث العربى والإسلامى، ويسعى إلى التنقيب والحفر العميق فى بنية وطبقات الثقافة العربية والإسلامية، للكشف عن مكوناتها وعناصرها المهيمنة، والخروج من أسر هذه القيود والتحرر منها، ثم الانطلاق إلى آفاق المعاصرة والنهضة والحداثة.
إن الجابرى، فى النهاية أستاذ أصيل للفكر الفلسفى القديم منه والوسيط والمعاصر، وقارئ معاصر للتراث، وناقد له، وقد ترك ما يشهد بأصالة فكره وطرحه ومقاربته لهذه الإشكالية المزمنة فى فكرنا وثقافتنا المعاصرة.
صدر كتابه التأسيسى «نحن والتراث.. قراءات معاصرة فى تراثنا الفلسفى» عام 1980 وقد حمل بذورا ناضجة ورؤية واضحة فى توصيف وتحديد الإشكال؛ ما التراث؟ وما حدوده وماهيته؟ وكيف نتعامل معه ومنهجيات القراءة المعتمدة فى هذا الإطار. كما كان أيضا وفى الوقت ذاته أشبه بإعلان نظرى ومنهجى عن الدراسات المتعمقة التى تلته.

ــ 2 ــ
كان الجابرى يهدف أساسا فى مشروعه هذا إلى التعرف على «العقل العربى» ومكوناته وتفاصيله وآليات تكوُنه واشتغاله معا، من خلال القيام برحلة طويلة فى (أروقة) ودهاليز الثقافة التى أنتجته، وساهم هو فى إنتاجها وتشكيلها، فالتعرف على الشىء من داخله أفضل بكثير من الوقوف عند وصفه من خارجه، خصوصا عندما يصدر الباحث عن نظرة نقدية فاحصة. يقول الجابرى «هذا ولا بد من التأكيد هنا من جديد على أن ما يهمنا أساسا ليس العقل كبنية ميتافيزيقية، بل العقل كأداة للإنتاج النظرى، كـ«منظومة من القواعد».. قواعد النشاط الذهنى. فكيف يمكن فهم هذه «الأداة ــ المنظومة» إذا لم نتتبعها فى عملها ومن خلال طريقتها فى العمل والإنتاج؟».
وكان الجابرى يشبه نفسه بـ«عارض الأفكار»، الذى يُشبه «عارض الأزياء»: فهناك من يمر من الناس فيرى زيًا معينا فيعجبه، وهناك من لا يعجبه فيرميه بالحجارة. وأنا لا يهمنى لا هذا ولا ذاك. من سيهمنى هو من سيدخل إلى المتجر معى، ويتعرف على موادى وما عندى من صوف، وما عندى من صبغة، ويعيش معى المشكلة، هذا النوع إذا اختلف معى سأرد عليه، أما الذى لا يدخل معى، فلن أرد عليه، لأنى سأكون ظالما، من حقه أن يقول ما يقول.
أما كيف يتم هذا التعرف الدقيق والفحص الشامل والنقد الجذرى، فكان عبر توظيف جملة من المفاهيم التى تندرج فى إطار «النقد المعرفى» الحديث، ومنها على سبيل المثال فكرة الثنائيات (الموروث والوافد، المشرق والمغرب، المركز والهامش، الظاهر والمضمر... إلخ) وفكرة «النموذج التحليلى المعرفى»، ثم المفهوم المركزى لدى الجابرى «القطيعة المعرفية».

ــ 3 ــ
وقد استحوذ هذا المشروع المعرفى النقدى على نصيب الأسد من الاهتمام والمناقشة والأخذ والرد؛ وطوال ما يقرب من العقود الأربعة التالية لظهور الجزء الأول «تكوين العقل العربى» فى 1984 لم يفت واحدا من كبار النقاد والمفكرين فى عموم العالم العربى وطوله وعرضه الإشارة إليه أو التنويه به أو عرضه عرضا تحليليا... إلخ.
يقول المرحوم على مبروك عن ذلك «كان لا بد من انتظار صدور كتاب الجابرى المعنون «تكوين العقل العربى»، ثم «بنية العقل العربى»، ليتحول مؤلفه ابتداء من العام 1984 إلى «نجم ثقافى» لتتم مبايعته أستاذا للتفكير، لا بالنسبة إلى الجيل الصاعد من المثقفين العرب فحسب، بل بالنسبة أيضا إلى شريحة واسعة من الجيل المخضرم منهم والذين تقطع شواهد عدة بأن جورج طرابيشى صاحب المشروع الأهم فى نقد الجابرى كان واحدا منهم».
كان التأكيد على صفة «النقد» و«النقدى» سمة مميزة لعمل الجابرى فى ذلك الوقت، كما فى عمل غيره من أصحاب المشاريع الفكرية «الناقدة» الأخرى، فالفكر العربى المعاصر «مطالب، إذن، بنقد المجتمع، ونقد الاقتصاد، ونقد العقل، العقل «المجرد»، والعقل السياسى. إنه بدون ممارسة هذه الأنواع من النقد بروح علمية سيبقى كل حديث عن النهضة والتقدم والوحدة فى العالم العربى حديث أمانى وأحلام».
وهكذا دشن الجابرى كتابه «نحن والتراث»، فى مطالع الثمانينيات من القرن الماضى، والذى كشف فيه عن بذور المنهج المعرفى التحليلى أو (الإبستيمولوجي) فى سعيه للكشف عن أبعاد وجوانب إشكالية (التراث والمعاصرة).

ــ 4 ــ
أثار صدور الكتابين «نحن والتراث» (1980) و«تكوين العقل العربى» (1982) أصداء بعيدة المدى فى الفكر العربى المعاصر، كما يرصد الراحل السيد ياسين، ويشهد على ذلك ليس فقط الانتشار الواسع لأفكار عابد الجابرى فى المشرق والمغرب على السواء، ولكن أهم من ذلك، كم وكيف المناقشات النقدية التى دارت حولهما فى عديدٍ من الندوات الفكرية والمنتديات الثقافية.
ونستطيع أن نربط كما يقول مبروك بين صعود نجم الجابرى، كمحلل وناقد «معرفى» للعقل العربى، وبين «عملية إعادة الاعتبار التى أحيط بها مفهوم «العقل» و«العقلانية» و«النظر العقلى» عموما فى الساحة الثقافية العربية بعد هزيمة الخامس من يونيو 1967، وانكشاف خواء الأيديولوجيا العربية السائدة من حيث بالتحديد أنها «أيديولوجيا«؛ أى وعى غير واعٍ!» كان ذلك التاريخ لحظة مفصلية للوقوف والمراجعة وطرح الأسئلة بشجاعة وقسوة وألم!
(وللحديث صلة)..