عَلَّقت صديقةٌ على منشور فيس بوك قصير؛ يُوثق حدثًا تكرر في الآونةِ الأخيرةِ قائلةً: "ما عرفتش أعمل إيموشن ضحك ولا بكا ولا غضب.. قلت أعمل (واو) وخلاص". بدوري لم أعرِف ماذا أصنَع؛ أضحكُ لارتباكِ مشاعرِها، أم أتعاطفُ معها، أم أأسى لحالها وحالِي وحالِ كثيرين مثلنا، وَسَط طوفانِ الأحداث المُتلاحِقة؟
***
فَهْم المَشاعِر التي تخرق جُدران سلامِنا الداخليّ؛ تحوَّل إلى فعلٍ صَعبٍ وثقيل. حَدَثٌ واحدٌ ضِمن عشراتِ الأحداثِ التي نتعرَّض لها يوميًا؛ يُورثنا التشوُّشَ والحيرة. الغضبُ لن يُغَيّر شيئًا؛ ذاك ما تعلمنا بعدَ حين، والضحكُ قد لا يكون مُواتيًا في كلّ وَقت، والحزنُ أكبرُ مِن مُحاولةِ استضافتِه. إذا حَلَّ الغضبُ مُكتمِلًا؛ انفجرنا به، والحزنُ إذا خيَّم وأخذَ الحَجمَ الذي يستحِقُّ؛ قتلنا، والضحك صار كما أقرَّ المأثور؛ أقربَ إلى البُكاء. خلطةُ مَشاعر مُزعِجةٌ، يُعانيها مَن لم تتبلَّد روحُه في خِضم المعركةِ المتواصلةِ بَعد.
***
سَمِعت كلماتٍ تشبه ما كَتبَت صديقتي عن مشاعرها مِن أخريات وآخرين؛ لا يتشاركون وَظائفَ مُتماثِلة، ولا تضمُّهم مستوياتٌ اجتماعية مُتقاربة، ولا تجمعهم إلا ظروفُ الحياةِ التي كَسحَت أمامَها جُموعًا غفيرةً؛ على تبايُن مَشارِبها ومِلَلِها. ليس الأمر استثناءً؛ بل حالًا عامة تنتابُ نفرًا مِمَن قُدّر لهم أن يعيشوا زمنًا تعِسًا مُهينًا، وأن يشهدوا صدمةً تلوَ صدمةٍ، وأن يُدركِوا صِدقًا أن الأسوأ ليس بأسوأ، وأن في جُعبةِ الساحر ما هو أعظم سوءًا وإيلامًا.
***
الخَلطةُ مَجموعُ أشياءٍ مُتداخِلة. هي في الأغلب مُتعلقَةٌ بالأكلاتِ والأطعِمَة، لكنها أيضًا ساريةٌ على الأحاسيس. في الدراما المِصرية القديمة؛ وأفلام الأبيضِ والأسودِ على وَجهِ التَحديد، تصِفُ امرأةٌ لأخرى كيف تضع على حياتِها الزوجية بعضَ البُهارات، كيف تصنع خلطةً خاصةً تجذِبُ بها وليفَها وتؤرّق لياليه. غالبًا ما تضُمُّ هذه الخلطةَ مُكوّنات لاذعة، وأصنافًا حارقة؛ تُشعِل المَشاعرَ مثلما تفعلُ بالأفواه.
***
بورصةُ المشاعر؛ المُتكاثِفة بسبب تعقُّد الأوضاع، المُتذَبذِبَة صُعودًا وهُبوطًا والمُتناقضة في أغلبِ الأحيان؛ لا تترك في النَّفسِ بصمتها المعهودة، إذ تمتزج سويًا فيصعُب فصلُها، ولا يتأتى تذوُّقُ كل منها على حِده. يكتسب الإحساسُ الواحد نكهاتٍ مُتنوعة ليست له؛ لا يغدو الفرحُ فرحًا خالصًا، ولا الحدادُ نقيًا مُوجعًا، ولا يستمر البؤسُ في ذاته بؤسًا حقيقيًا عميقًا.
***
في لقاءٍ جَمَعَنا منذ أيام؛ استنكرت صديقةٌ ذات هِمَّةٍ لا تُنكَر وصَلابَة لا تلين؛ ردَّ فِعلِ الجِيران الذين زارهم الفراقُ واختطف مِن وسطِهم عزيزًا. قالت إن أحدَهم في الأيامِ التاليةِ للمُصابِ الجَلَل؛ لم يَرتدِ السوادَ أو يُمسِك بمنديل يجفف به ولو تظاهرًا؛ بضعَ دمعاتِ، بل لم تبدُ على ملامِحِهم أيُّ علامة مِن علاماتِ الحزنِ الكَّبير الذي يخلِفه الموتُ كما عرفناه. لم أتعجَّب مِن وصفِها ولا من تفاصيل حكايتِها وضيقها بما رأت، فقد روت لي واقعةً مُمَاثلة سيدةٌ مِن المَعارِف، وهي تلوّح بيدِها كنايةً عن عدم الاهتمام: "كله بقى زي بعضه.. اللي يموت يموت واللي يعيش يعيش.. ما عادش فيه حد لاحق يحزن". إحدى المرأتين تقطُن قلبَ حيّ عتيقٍ مِن أحياءِ القاهرةِ، والأخرى على هامشها تكاد الحدودُ تلفظُها. واحدةٌ تحمِلُ شهادةً مِهنية وتعمل في مجال دراستها باجتهاد مشهود، والأخرى لا تعرف القراءةَ والكتابةَ لكنها تخدِم بمهارةٍ في البُيوت. مَلحوظتاهما مُتطابِقتان، وتوصيفاهما لما استجد بين الناسِ مُتماثلان.
***
خلطةٌ رماديةٌ هي؛ لا ألوانٌ صريحةٌ فيها ولا خطوطٌ فاصِلة. الضربة التي تلي سقطةً وتعقبها نازلةً؛ تزيح همًا وتُلقي على الأكتافِ بآخرٍ، يأتي خبرٌ أقلّ قتامة فلا يجد الأجواءَ المُناسبة ولو لقليل من السعادة. تمُرُّ الأحداثُ وكأنها تسير على صفحةِ مِياه؛ دون أن تتركَ الأثرَ الوَاجِب.
***
الثابتُ في خِبراتِ البَشَر؛ ألا فعلٌ يزول ببساطة ويختفي كما لو كان عدمًا. لحظةٌ مَحتومةٌ ستجيء بكُلّ ما فات وتُعطِيه حقَّه مِن الحضُور. لحظةٌ تَستَحضِر المشاعرَ المَهدورة بكامل قوَّتِها وأصالتِها ونقائِها؛ لا خلطة تُخفّف من حِدَّتها ولا مَزيج يُورثها الضَعف.