كان الطقس بديعًا، والسعادة تغمر الكونَ؛ تتوزع على مَن فيه عدلًا وإنصافًا، وتبعث النشاط الجمَّ بين الكلِّ بلا بُخلٍ ولا تقتير،وقد جلست مُفيدة إلى مكتبها بالجريدة؛ تطالع الأنباءَ المُتوافدة، وتهيئ نفسها لكتابة مقالتها المُنتظرة؛ فقد حان موعد تسليم النصّ إلى رئيس التحرير؛ حيث يأخذ الدورة الاعتيادية الفاحصة، فيمر بين الأيدي التي تحذف منه عبارةً أو عبارات، وتقوم بتعديل بعض الصياغات؛ إلى أن يظهر في صورته الأخيرة؛ بريئًا مِن العيوب كافة، ومُنزهًا عن الزلَّات والسقطات.
***
تعالت أصواتٌ بالخارج؛ تنذر بخطر ماثلٍ وشرّ مُستطير؛ فتملمَلَت في قعدتها مُفيدة، ثم قامت تطلُّ مِن النافذة بفضول، ولم تلبث أن أشاحت بيدها وعادت إلى مكانها، فلم يكُن في الأمر ما يُلهِم القريحة. موظفو البلدية الذين يمارسون صلاحياتهم مِن حين إلى حين، يعدون وراء الباعة الجائلين، ومعهم قوة أمنية تقود الحملة التطهيرية، ويحطم أفرادها ما وقع في طريقهم بمنتهى الإخلاص.
***
غدًا ترى في جريدتها وفي الصحف الزميلة؛ تحقيقات مُطولة، مصحوبة بالصور والرسوم الطريفة، عن هؤلاء الباعة الذين يدمرون اقتصاد البلد، ويأتون على الأخضر واليابس، ويدفعون عجلةَ الاقتصاد إلى الوراء. يمتلئون طمعًا وخبثًا وفسادًا؛ يتهربون مِن الضرائب المقررة عليهم، ولا يلتزمون بتصريحات الحكومة الضابطة للأسعار. ينتحلون الأعذار، ويدفعون بحجج واهية وأسباب غريبة، ويتهمون الإصلاحات الاقتصادية المُعجزة؛ بأنها السبب في سوء سلوكياتهم وترديها.
***
مَصمَصت شفتيها، وعدَّلت من وضع نظَّارتها، فيما انجذبت عيناها رغمًا عنها، إلى خبر ضمن الأخبار الخارجية التي لا توليها في العادة انتباهًا كبيرًا: "الشرطة البريطانية تحث أفراد المجتمع على الإبلاغ عن الإهانات التي تجعلهم يشعرون بالسوء، ولو لم تكن ضمن الجرائم الجنائية". أكملت القراءة بصعوبة إذ تعذَّر عليها استيعابُ محتوى الخبر، وحين وصلت إلى النهاية، أدركت أن هدف الحملة أبسط مما تخيلت: "معرفة الأفعال التي تسبب الضيق والكرب للناس". دمعت عيناها تأثرًا، وجلجلت ضحكتها في أروقة الجريدة، خاصة حين وقعت على الشعار الذي رفعته مقاطعة جنوب يوركشاير؛ كي تحمِّسَ المواطنين، وتدفعهم إلى المشاركة في الحملة الجادة التي تتبناها شرطتها: "أكره الإساءات".
***
لمعت بذهن مُفيدة فكرةٌ عظيمة، مَقالة قد تعجب المسئولين في الجريدة؛ هنا شرطة، وهناك أخرى شبيهة. كلتاهما ترتدي الزي الرسميّ، وتقود الحملات، وترفع الشعارات؛ توأمة مثيرة لكن؛ ترى هل مِن اختلافات؟
***
تصاعدت الجلبةُ وحَرَمَت مُفيدة مِن الاندماج في الكتابة، فعادت إلى النافذة مرة أخرى؛ لتكتشف أن بعضَ المواطنين غير الصالحين قد امتنعوا عن مُساندة الحملة التي شهدت بدايتها قبل قليل؛ بل وعرقلوا بأجسادهم الموجودة بلا داع وسط الطريق؛ عمليةَ المطاردة والصيد. صبغت الطماطمُ المهروسةُ الأرضَ بحمرةٍ خفيفة، ونجا أغلب الباعة بفضل مهاراتهم المكتسبة على مر الأعوام؛ فيما أسفرت مهارةُ القنصِ الأصيلة التي تتمتع بها القوةُ الأمنية؛ عن وقوع امرأةِ عجوز في الأسر.
***
تركت مُفيدة المقالةَ قليلًا ريثما تهدأ الأحوال، وعادت تتنقل بين الأخبار. مرت بخبر عابر عن أبٍ قتل أولاده وانتحر لعجزه عن توفير نفقاتهم، ثم صادفت تصريحًا لمسئول رفيع يندد باستخدام المواطنين لقطار الأنفاق كوسيلة انتقال؛ لا مِن منطقة إلى أخرى، بل مِن الدنيا إلى الآخرة. لم يحمل الخبر إساءةً لشخص بعينه، لكنَّ بعض التعليقات تجاوزت حدود الأدب والأخلاق الحميدة، بما قد يؤذي المشاعر الرقيقة.
***
تدافعت إلى رأسها الأفكار، وتداخلت الأخبار واللقطات، وامتزجت وكأنها تدور في الخلاط. فكرت إن كان على الشرطة البريطانية التحقُّق مِن وجود إساءات غير مَقبولة في ثنايا التصريح، وفيما تلاه مِن مُداخلات، أو أن الأمر بكامله لا يستحق.
***
عبثت بمحرك البحث جوجل، ثم انتقلت إلى اليوتيوب على سبيل التغيير، فظهر أمامها تسجيلٌ لبرنامج وطنيّ مَعروف، قابلت فيه المذيعة عددًا مِن المواطنين المسرورين، الشاكرين توفر السلع والبضائع في السوق: "مش مهم نشتري المهم أن كل حاجه موجودة.. يعني لازم نمسكها في ايدينا؟ يعني لازم ناكل منها؟ ليه الطمع.. ليه؟ أبدًا؛ الرضا نعمة من ربنا، كلنا ضد جشع التجار، وكلنا مع البلد بنحارب الإرهاب.. الحمد لله.. الحمد لله".
***
نفضت مِن رأسها بعضَ الأفكار التافهة التي لا نفع منها، وطردت نواياها الكريهة، وتنهدت في ارتياح. أخرجت أصبع زبدة الكاكاو مِن الحقيبة، مَرت به على شفتيها في حركة مُتقنة خبيرة، ثم اعتدلت في جلستها؛ مُستعدة للكتابة عن نهاراتٍ شاعريةٍ خالصة.. نهارات مُفيدة.