العتمة - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 7:52 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العتمة

نشر فى : الجمعة 21 سبتمبر 2018 - 9:00 م | آخر تحديث : الجمعة 21 سبتمبر 2018 - 9:00 م

«بالأمس مررت من أمام منازلكم، الأبواب مغلقة، لا شيء سوى العتمة، تألمت للغاية، أدعو الله أن يصل ما انقطع، مودتى»، أضاءت تلك الكلمات شاشة هاتفى فأوقفت الزمن وبدلت هوية المكان.
كان على أن أظل جالسا وأن أتظاهر بالإنصات إلى المتحدثين المشاركين فى حلقة النقاش الجامعية التى قدمت من أجلها. على الرغم من أن العنوان التليفزيونى للحلقة «الشرق الأوسط بين الاستبداد والإرهاب.. ما العمل؟»، أثار هواجسى وكاد يدفعنى إلى البقاء بعيدا، فإن الصداقة التى تجمعنى باثنين من المتحدثين ألزمتنى الحضور. بحثت عن مقعد فى الصفوف الخلفية للقاعة التى توسطتها مائدة مستديرة، وارتفعت يد تحيينى وتشير إلى مكان خال بجوار صاحبها فى الصف الأخير. تذكرته على الفور، هو زميل دراسة سابق فى قسم العلوم السياسية بجامعة برلين الحرة، عرف عنه الانتماء إلى العديد من الحركات اليسارية والمشاركة الدائمة فى التظاهرات المدافعة عن حقوق الأجانب واللاجئين، وعمل بعد إنجازه لأطروحة الماجستير فى صحيفة يسارية (ألمانيا الجديدة) ولم يتخل أبدا عن لهجته الألمانية الشرقية (اللهجة الساكسونية). جلست إلى جواره بعد عناق قصير وتبادل قليل من الكلمات عن مفاجأة اللقاء بعد كل تلك السنوات، شغلتنى لوهلة علامات تقدم العمر التى بدت عليه ومر بداخلى الخوف من تقدمى فى العمر والوحدة التى صارت بفعل اختيارات كانت لى وظروف للحياة فرضت على رفيقة تنقلاتى المحمومة، طفت أمام عينى الصورة الفوتوغرافية للفيلسوف الإيطالى نوربيرتو بوبيو فى تسعينياته التى تتصدر الغلاف الأحمر لكتابه «عن الشيخوخة»، تطايرت دون أن أتذكر ملامحه بوضوح. ألقت بداية الجلسة النقاشية بسترها الحاجبة على مخاوفى فأسكتتها، وضعت ابتسامة فاترة على وجهى واستجمعت طاقتى العقلية لمتابعة مداخلات المتحدثين.
***
كانت الدقائق الأولى تمضى متثاقلة والكلمات التى تشكلها أفواه المتحدثين تؤكد لى عبث النقاش الأكاديمى عن الشرق الأوسط حين يختزل فى عموميات لا تراعى من جهة خصوصيات بلدانه المختلفة وتمايز أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا تعتبر من جهة أخرى بغير الاستبداد والإرهاب كظواهر مشكلة للحقائق الكبرى لحياتنا كعرب وشرق أوسطيين، فلا اكتراث بالمعدلات المنخفضة للتنمية الإنسانية ولا الانهيارات المتكررة لمؤسسات الدولة الوطنية ولا صراعات الحكومات المتصاعدة على الموارد المائية الشحيحة إلا بما يخدم تناول مقصلتى الاستبداد والإرهاب. ثم بدا لى من بعد ما رأيت آيات إعجاب الجمهور بالعموميات الملقاة باتجاههم وتقديرهم «للوضوح» الذى تناول به المتحدثون «قضايا الشرق الأوسط المعقدة» (خلال مداخلاتهم، كرر المتحدثون كثيرا استخدام تلك العبارة أو تنويعات عليها) لأمتنع عن النظرة النقدية إلى الجلسة وأدرك أن الإلقاء بالعموميات بشأن الاستبداد والإرهاب ربما مثل السبيل الوحيد لتحفيز الجمهور على الإنصات إلى شرح لأحوال الشرق الأوسط لا يسقط فى هاوية المعالجات السياسية الرديئة لأزمة هجرة العرب إلى أوروبا وأزمات اللجوء واللاجئين.
مع مرور المزيد من الوقت، أيقنت أن هذه هى بالفعل الاستراتيجية الواعية للمتحدثين الذين وظفوا ثنائية الاستبداد والإرهاب لتمرير رسائل سياسية تقدمية تدافع عن حق أعداد «مقبولة» من العرب فى قدوم القارة الأوروبية طلبا للأمان وحقهم فى اللجوء وبلادهم تجتاحها الحروب الأهلية ومآسى العنف الرسمى (الحكومي) وعنف الجماعات الإرهابية وانتهاكات لا تتراجع للحريات وخروج مؤلم للأقليات الدينية والعرقية وحقهم فى الحياة بعيدا عن مطرقة حكومات سلطوية وسندان إرهابيين يعتاشون على الدماء. كان الصديقان والمتحدث الثالث (أستاذة علوم اجتماعية وأستاذ علاقات دولية وإعلامي) يمارسون فنا معلوما من فنون التواصل مع الجمهور يستند إلى ثلاث خطوات، ١ــ الاقتراب المحدود (والمحسوب) من انطباعات وقناعات الأغلبية (لا شيء فى الشرق الأوسط غير حكام مستبدين وعصابات إرهاب وملايين المهاجرين واللاجئين الذين تتحمل الحكومات الأوروبية كلفة طرقهم أبواب القارة)، ٢ــ بغية استثارة الشكوك فى بعضها (هل على الأوروبيين بالفعل إغلاق الأبواب فى وجه الهاربين من حرائق الشرق الأوسط؟ هل التخوف من النزوع الراديكالى والعنيف للاجئين العرب فى محله أم أن أهوال الهروب من مقصلتى الاستبداد والإرهاب تصنع من العدد الأكبر من اللاجئين باحثين عن الاندماج السلمى والناجح فى المجتمع الجديد؟)، ٣ــ وربما قلبها رأسا على عقب (قد يكون الأفضل للحكومات الأوروبية هو تشجيع حكام الشرق الأوسط على التخفيف من القبضة الأمنية واستثمار موارد مجتمعاتهم الشحيحة فى مواجهة أزمات الفقر والبطالة وانعدام الأمان الاجتماعى، قد يكون الأفضل هو وضع موارد الأوروبيين فى استثمارات اقتصادية تخلق فرصا للعمل وتدعم شبكات الأمان الاجتماعى عوضا عن بناء معسكرات بوليسية على امتداد الساحل الجنوبى للبحر المتوسط لمنع اللاجئين من بلوغ الأراضى الأوروبية).
فور انتهاء المتحدثين من مداخلاتهم وقبل أن ترتفع الأيادى فى جنبات القاعة وتبدأ جلبة توجيه الأسئلة والإدلاء بالتعقيبات، خرجت من القاعة أملا فى فنجان من القهوة وشيء من الهواء النقى. لم أكد أستمتع برشفتين من القهوة الساخنة، إلا وطالعت زميل الدراسة السابق الذى كنت جالسا إلى جواره وهو يسرع الخطى نحوى. قال «سقط منك هاتفك وأنت تغادر القاعة، ها هو»، شكرته ونظرت إلى الشاشة المضيئة متوقعا أن تكون «السقطة» قد خربتها وناقما على «النصيب» الذى سيجبرنى على الذهاب إلى محل للإلكترونيات لتصليحها أو استبدالها. لم تخرب الشاشة، بل كانت تعمل بكفاءة مكنتها من الإظهار الواضح لكلمات «العتمة» التى حملتها رسالة صديقى الصعيدى حين مر من أمام منازل أهلى فى جنوب محافظة المنيا. يبدو أن ابتسامتى الفاترة توارت وحاصرت ملامح الحزن وجهى على النحو الذى جعل الزميل السابق يسأل عما إذا كنت بخير. قلت «أرسل صديق من مصر يخبرنى بغياب الحياة عن منازل أهلى فى الصعيد وبأبوابها المغلقة وهو ما آلمنى بشدة، فقد أمضيت شقا معتبرا من سنوات عمرى فى تلك المنازل ويحزننى أن تخفت بها الأصوات وتسودها العتمة».
***
استأذن لإحضار فنجانين من القهوة وسرعان ما عاد بهما وبقطع صغيرة من الحلوى التى جرت العادة على تقديمها للجمهور فى الحلقات النقاشية بالجامعة. قال «هوّن عليك. أعلم أن ما سأقوله الآن لن يعجبك وقد يستدعى فى ذهنك الصورة النمطية الخاطئة عن الألمان كماكينات بشرية لا إحساس لها، وربما ربطت بينه وبين أفكارى اليسارية غير المكترثة بالقيمة المعنوية لأماكن النشأة الأولى، إلا أن المنازل المغلقة ليست نهاية العالم. أنت هنا فى مدينة وفى بلد لم يتوقف بهما طوال القرن العشرين إغلاق المنازل وطرد أصحابها ونزع ملكياتهم وتهجيرهم بفعل جنون السياسة، بل أعقب الإغلاق والطرد والتهجير تارة قتل جماعى وحرق مفزع لملايين الناس بسبب سطوة العنصرية والكراهية والتطرف إبان حكم النازيين، وتارة أخرى تشييد الأسوار العازلة، لكيلا يعود من قرر الحكام إبعاده ولا يخرج من فرضوا عليه البقاء زمن الحكم الشيوعى فى ألمانيا الشرقية. أعرف أنك تعرف كل ذلك، وتعرف أيضا أن بعض شباب الحركات اليسارية فى الشق الغربى من ألمانيا كان يقود منذ سبعينيات القرن العشرين حملات منظمة لاحتلال المنازل المغلقة والعيش بها لمواجهة الجشع الرأسمالى لملاك العقارات، ثم امتدت حملات احتلال المنازل المغلقة إلى الشرق بعد سقوط سور برلين مستغلة نزوح كثيرين إلى الغرب لخليط من الدوافع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. شخصيا، أمضيت سنوات الدراسة الجامعية متنقلا بين منازل محتلة وحينها قرأت العديد من الكتابات التاريخية والأعمال الأدبية عن الضيع والقصور المهجورة والمنازل المغلقة، وأدركت أنها ظاهرة عالمية تمتد من الهند إلى البرازيل.. هون عليك».
تابعت النظر إليه صامتا وفى حلقى تشكلت كلمات لا صوت لها لسؤال وحيد، هل يظن الرجل حقا أنه هوّن على وواسانى بكلماته هذه وبمقارناته العابرة للتاريخ والحدود؟ الأرجح أنه ظن ذلك فعلا، وثبت حيث أراد نفى الصورة النمطية عن بنى قومه. استأذنته أنا هذه المرة متعللا بضرورة إحضار حقيبتى التى تركتها داخل القاعة، وطلبت منه أن ينتظرنى. سرت مسرعا، وتقافزت أمام عينى أطياف من الصور المتخيلة. خلته محتلا لمنازل أهلى فى الصعيد، فازدريته. رأيت منازلنا تصير أطلالا على هيئة الأطلال المنتشرة فى قرى الشرق الألمانى التى رحل عنها سكانها وتغلق الآن محطات القطار التى كانت تيسر الوصول إليها، فكرهت المقارنة. ابتعد وجدانى عن السياق الألمانى، فرأيت أطلال البيوت فى اليمن وسوريا والعراق وليبيا التى أجبرت الحروب الأهلية أهلها على النزوح بعيدا عنها. ثم تذكرت أن فى البدء كانت فلسطين وبيوت الفلسطينيين التى طردوا منها غصبا ودخلها محتل من نوع آخر، محتل جاء طلبا لبقاء أبدى.
***
دخلت إلى القاعة وغادرتها مثبتا نظرى على أرضيتها حتى لا تصطدم عيناى بالصديقين المتحدثين أو غيرهما، والتقطت أذنى خليطا لم يعن لى أن أميزه من الكلمات والأصوات فى نقاش الاستبداد والإرهاب الذى كان مازال دائرا. عدت إلى حيث الزميل السابق، وكان ذهنى قد استقر على هويته كمحتل غاصب لمنازل أهلى وعدل هيئته عشرات المرات لكى يناسب «السياق المحلى» فى جنوب المنيا. أحضرت الابتسامة الفاترة إلى وجهى مجددا وقلت له بعد كلمات شكر منزوعة الروح على إحساسه بى ومواساته لى، «الآن أخبرنى، كيف احتللتم المنازل المغلقة وكيف عشتم بها وماذا فعلتم بأشياء أصحابها الذين كانوا؟».

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات