تجاوزت الأطماع التركية المقيتة والمزمنة فى المقدرات العربية حدود الأراضى ومناطق الصلاحية البحرية بكل ما تطويه بواطنها من ثروات هيدروكربونية هائلة، لتطال الحقوق والموارد المائية العربية، ليس فقط تلك التى تنبع من داخل تركيا وتمثل شريان الحياة للعراق وسوريا كنهرى دجلة والفرات، وإنما حتى تلك التى تنساب من إثيوبيا لتجدد الحياة بوادى النيل فى مصر والسودان. الأمر الذى يشكل تهديدا مباشرا للأمن المائى العربى وينذر بتفاقم الأضرار والكوارث البيئية، بما يعيق مساعى تحقيق الاكتفاء الذاتى الدائم والآمن من الاحتياجات المائية المختلفة، كما يقوض جهود بناء اقتصاد زراعى عربى عصرى يلبى متطلبات الأمن الغذائى ويرسى دعائم التنمية الشاملة والمستدامة.
فإزاء سوريا والعراق، عمدت أنقرة إلى استخدام سلاح المياه عبر فرض أمر واقعٍ يتجلى فى طرائق شتى، أبرزها: إنكار الطابع الدولى لنهرى دجلة والفرات، فأسوة بتدابيرها العدائية حيال موارد الطاقة فى الدول العربية وشرق المتوسط، تباشر السياسات المائية التركية تجاهلها المستفز للمواثيق الدولية معتبرة النهرين، اللذين طالما تغنى بهما فطاحل الشعراء العرب كالمتنبى والجواهرى والرصافى وغيرهم، نهرين تركيين تحتكر وحدها حق التصرف بمياههما بغير حساب ودونما مراعاة لحقوق سوريا والعراق، أو احترام لقواعد القانون الدولى للمياه، التى تكفل الاستخدام العادِل والمُنصف للمصادر المائية، عبر التنسيق مع دول المجرى والمصب لاقتسام المياه، والتزام التعاون على أساس المساواة السيادية للدول المتشاطئة لتحقيق الفوائد المتبادَلة. ومن ثم، جنحت أنقرة للاستعاضة عن المصطلح القانونى الدقيق لوصف نهرى دجلة والفرات وهو «الأنهار الدولية»، بتعبير آخر مراوغ ومغرض هو «المياه العابرة للحدود».
كدأبها، أبت أنقرة إلا أن تضرب عرض الحائط بكافة القوانين والمواثيق الدولية ذات الصلة، خاصة الاتفاقيتين الدوليتين لعامى 1966 و1997 فى شأن استخدام المجارى المائية الدولية لأغراض غير ملاحية،علاوة على الاتفاقات الثنائية التى وقعتها مع بغداد ودمشق عامى 1982و 1987، والتى تحدد حصص الدول الثلاث من مياه النهرين؛ لذا عكفت تركيا على المراوغة فى المفاوضات التى اضطرت لخوضها مع جارتيها العربيتين منذ عام 1962، بما يخولها استكمال مشاريعها المائية الضخمة على النهرين دون التشاور معهما، حتى تمكنت من إقامة مئات السدود على حوضى النهرين وتحويل مياههما إلى سلعة سياسية بيدها، على نحو لخصه الرئيس التركى الأسبق سليمان ديميريل، الملقب بمهندس السدود، بقولته الشهيرة والخطيرة إبان تدشين سد أتاتورك الأضخم عام 1992، «إن المياه التى تنبع من تركيا هى ملك لها وحدها، كما أن النفط الكامن بالدول العربية ملك لهم وحدهم، وطالما أننا لم نطلب مشاركة العرب نفطهم،لا يحق لهم المطالبة بمشاركتنا مياهنا».
وإمعانا منها فى استفزاز العرب، استعانت تركيا بالخبرة الإسرائيلية فى تنفيذ مخططاتها تلك، على نحو ما جرى فى مشروع «غاب»، الذى انطلق عام 1995 لإنشاء 22 سدا على نهرى دجلة والفرات، بدعم مالى وفنى إسرائيلى، يشمل بناء السدود والتطوير الزراعى بضفتى الأنهار،وصولا إلى طرح مشروع «مناوغات» أو «أنبوب السلام» لإيصال المياه التركية إلى المستوطنات الإسرائيلية عبر صهاريج عملاقة تمخر عباب البحر المتوسط، والذى استعاض عنه الطرفان لاحقا بمشروع آخر، لنقل مياه كوكصو التركية إلى إسرائيل بعدما وافقت الاخيرة على أن يستفيد منه الفلسطينيون.
ودونما توقف، واصلت تركيا تشييد السدود على نهرى دجلة والفرات، حتى أفضى ملء خزان سد إليسو، الذى أنشأته على نهر دجلة عام 2016 قرب الحدود مع العراق، إلى نقص مياه الشرب للمواطنين العراقيين والسوريين، وانخفاض معدلات توليد الطاقة الكهربائية، وتهديد الإنتاج الزراعى والصناعى إثر نفوق الثروة الحيوانية، وزحف الجفاف والتصحر مع ارتفاع نسبة الملوحة فى شط العرب ما قلص المساحة الزراعية فى العراق من 15 مليون دونم وعدت بها الحكومة إلى ثلاثة ملايين فقط، فضلا عن حظر زراعة الأرز جراء انحسار المياه المتدفقة إلى البلدين بنسبة 60 %، الأمر الذى فاقم النزوح الديموغرافى بعد هجر المزارعين لأراضيهم. كذلك امتد تاثير السد إلى المناطق الأثرية، حيث دمر مدينة هسن كيف التاريخية، وهو ما تسبب فى نزوح سكان 40 قرية ومدينة بمنطقة يعود تاريخها إلى 12 ألف سنة، وشكلت مع مرور الزمن درة التاريخ الكردى. ولا يستبعد خبراء أن تتعاظم التداعيات السلبية الخطيرة للسدود التركية ويتسع نطاقها تاثيرها،لاسيما أن غالبيتها أقيمت بمناطق تقع ضمن الحزام الزالزلى، بما يزيد احتمالات انهيارها ومن ثم تخريب المزيد من الأراضى والبلدات.
فى سياق مساعيها لاستخدام المياه كورقة ضغط على بغداد ودمشق، باشرت أنقرة سياسة التعطيش الجائر لهما، بغية إجبارهما على القبول بالاحتلال التركى لأراضيهما والرضوخ للإجراءات الممنهجة لتغيير التركيبة الديمجرافية والمعالم الحضارية لتلك الأراضى المحتلة تمهيدا لتتريكها، فضلا عن دفع بغداد للإذعان للطرح التركى القديم الجديد الخاص بمقايضة النفط بالمياه. وبموازاة استخدامه نفس الاستراتيجية حيال أكراد سوريا والعراق، متوخيا تأجيج التمرد الشعبى داخل المناطق الكردية ضد قوات سوريا الديمقراطية، يتطلع أردوغان إلى حمل بغداد ودمشق على التماهى مع السياسات التركية الرامية إلى تقويض حزب العمال الكردستانى ومحاصرة أذرعه وحلفائه بما يحول دون قيام الدولة الكردية. فلطالما رهنت أنقرة أى مفاوضات مع دمشق وبغداد حول المياه بمستوى تعاونهما فى محاصرة الحزب الكردستانى، على غرار مقايضتها الأسد الأب عام 1998 تسليم عبدالله أوجلان زعيم الحزب مقابل تسهيلات مائية تركية.
أما بخصوص وادى النيل، وبينما تراوغ بشأن حقيقة دورها فى مشروع سد النهضة الإثيوبى، تؤكد المعارضة القطرية ضلوع أنقرة والدوحة فى تمويل وحماية ذلك السد بغية الضغط على مصر وابتزازها استراتيجيا. ففى 2013، أبرمت أنقرة اتفاقية دفاع مشترك مع أديس أبابا تتضمن إمداد الأخيرة بالخبرات التركية بمجال بناء السدود، علاوة على مساعدتها فى الدفاع عن السد عبر تحصين محيطه بأنظمة رادار تركية للإنذار المبكر ومنظومات صاروخية من إنتاج تركى ــ إسرائيلى مشترك. وفى عام 2014 وإبان زيارته إثيوبيا، التى تحتضن أضخم الاستثمارات التركية بالقارة السمراء، بقيمة 2.5 مليار دولار، وتستضيف أكثر من 350 شركة تركية يعمل بها نصف مليون إثيوبى، عرض وزير الخارجية التركى السابق داود أوغلو دعما فنيا تركيا لمشروع السد،الذى تنفذ أنقرة بمحيطه مشروعا استثماريا ضخما لزراعة مليون ومائتى ألف فدان، كما وقعت فى 2015 اتفاقية تعاون مع أديس أبابا لتوليد الطاقة الكهربائية منه، وإيصالها إلى دول الجوار الإثيوبى. ومع انطلاق المفاوضات برعاية أمريكية لتسوية الخلافات الفنية والقانونية مع مصر والسودان حول السد، عمد الرئيس التركى إلى تحريض السلطات الإثيوبية على التعنت توخيا لاستبقاء الدعم التركى والدولى لمشروع السد.
إذا كان ذلك كذلك، فلا مناص أمام العرب من مواجهة العبث التركى بأمنهم المائى عبر توحيد الجهود واستنهاض الهمم للسير فى مسارات ثلاثة متوازية. أولها، ديبلوماسى يستنفر القوى الكبرى والقضاء والتحكيم الدوليين ويتوخى تفعيل مقررات الشرعية الدولية التى وضعت أسسا عادلة لتقاسم مياه الأنهار الدولية، وألزمت الدول المنضوية تحت لوائها بتنفيذ الاتفاقات الدولية والثنائية وقواعد القانون الدولى التى تمنع دول المنبع من الافتئات على حقوق دول المجرى والمصب، كما تحض على الشراكة المستدامة وفقا لمبادئ حسن الجوار والحقوق التاريخية المكتسبة.
وثانيها، علمى يجنح لتبنى سياسات ناجزة فيما يخص اقتصاديات المياه،تشمل تطبيق أحدث التقنيات وتنفيذ مشاريع خلاقة وانتهاج الإدارة المائية الحكيمة والمتكاملة لاستغلال وحماية الموارد المائية، كاستخدام التكنولوجيا المتطورة فى الرى والإنتاج الزراعى، واعتماد الإدارة اللامركزية لمحطات معالجة الصرف الصحى،إضافة إلى الحصاد المائى، بمعنى تجميع المياه أثناء مواسم الهطول فى سدود وأحواض مائية،فضلا عن استحداث موارد مائية موازية كالاستمطار والمياه الجوفية، وتكرير المياه المستعملة توطئة لإعادة استخدامها.
أما ثالثها، فعسكرى ينشد تلمس السبل الكفيلة بتحقيق توازن القوى والردع المطلوبين مع أنقرة، بما يساعد على لجم غطرستها وتقويض مساعيها لفرض وضع مائى مجحف على سوريا والعراق عبر تسييس بل وعسكرة قضية المياه، مستغلة عجزهما عن كبح جماح خروقاتها جراء تراجع قوتهما الشاملة إثر اندلاع المواجهات المسلحة فى سوريا منذ العام 2011، وظهور الإرهاب الداعشى عام 2014،ما أدى إلى إلى تدهور البنية التحتية المائية للدولتين،بالتزامن مع افتقارهما إلى استراتيجية مائية فاعلة،فى ظل سوء الإدارة المزمن للموارد المائية الوفيرة، وضعف الاستثمار فى البنى التحتية.
وفى طياتها حملت تجارب عربية وعالمية إشارات ملهمة على هذا الدرب، ففى حين تمكن العراق من بلوغ «توازن القوة والردع «مع تركيا خوله كبح جماح صلفها المائى من خلال تهديد بغداد باستخدام القوة حالة إقدام أنقرة على المساس بحقوقه المائية فى نهرى دجلة والفرات، نجحت سوريا فى فرض معادلة ردع للأتراك قوامها «الأمن مقابل المياه»، استطاعت من خلالها حماية أمنها المائى؛ مستخدمة ورقة حزب العمال الكردستانى. ففى العام 1998، وبعدما وضع النزاع المائى البلدين على شفا المواجهة العسكرية، إثر تهديد رئيس الوزراء التركى وقتذاك مسعود يلماز بإغلاق سد أتاتورك بالكامل لحجب المياه عن سوريا بجريرة دعمها للحركات الكردية الانفصالية، اضطرته دمشق لتوقيع اتفاق أضنة، الذى تعهدت خلاله بالتوقف عن مؤازرة حزب العمال الكردستانى، مقابل تنازلات سياسية ومائية تركية.
وقبل قليل، وبعدما تراءى لقبرص واليونان أن اجتراء أردوغان على فرض الأمر الواقع بشرق المتوسط، إنما يتأتى من خلل فى موازين القوى لمصلحة تركيا، هرعت الدولتان للمضى فى ذات المسيرة الثلاثية. فبموازاة استنفار الشرعية الدولية، انطلقت مساعى تطوير القدرات الدفاعية الردعية، وتجلى الاستقواء بالاتحاد الأوربى والناتو، والحلفاءالاستراتيجيين والشركاء الإقليميين، فبالتزامن مع توقيعهما مذكرات للتعاون الدفاعى والأمنى مع واشنطن تتضمن إعادة التسليح وإجراء المناورات المشتركة وإقامة مركز للتدريب العسكرى، دشنت أثينا ونيقوسيا مع تل أبيب برنامجا شاملا للتعاون العسكرى بين ثلاثتهم. الأمر الذى أجبر إردوغان على التراجع خطوات للوراء، ولو مرحليا، عبر وقف مناوراته العسكرية البحرية المستفزة، وتعليق عمليات البحث والتنقيب غير المشروعة عن الهيدروكربونات بمناطق الصلاحية البحرية التابعة لقبرص واليونان.