انطلق القطُّ مُهاجِمًا ورقةً يحركها الهواء، وَثَب عليها وحطَّ فوقها فانبعجت أسفله وسَكَنت؛ لكنه لم يكتفِ باعتقالِها ولم يستلذُّ كما أراد. فَرَدَ جسمَه من جديد وابتعد قليلًا؛ فعادت تتحرَّك وعاد يُناوشها. شنَّ عليها هجماتٍ مُتعدّدة إلى أن فقدت اللعبةُ جاذبيتَها، فأهملها وراح يتأمَّل غُرابًا يعبثُ بقطعةِ خُبزٍ غطَّتها الأتربة.
• • •
الهَجمَةُ في قواميس اللغةِ العربيةِ اسم مَرَّة من الفِعل هَجَمَ أي؛ دَخَلَ دخُولًا مُفاجِئًا، جمعُها هَجَمات والفاعلُ هاجِمٌ، أما الهجَّامُ بتشديد الجيم فالشَّخصُ الذي اعتاد الهُجومَ وألفَه وربما امتهنه؛ كمَن يحترفَ السَّطوَ على البيوتِ أو قطعَ الطريقِ على الناس.
• • •
قد تكونُ الهَجمةُ مَحدودةً؛ يحَقّق القائمُ بها هدفًا بعينِه ثم يتوقَّف ليُقيّمَ ما حَصد، لا تأخذه نشوةٌ تجعله يتمادى فيفقِد مَكسَبَه، ولا يستدرجه الطمعُ فيتلهَّى به عن خُطته. هناك أيضًا هَجمةٌ مُعدَّةٌ مُرتَّبة؛ وتلك غالب الأحيان مَضمُونة النتائجِ، وأخرى وليدةُ اللحظةِ والظَّرف؛ تنبثق كردّ فعلٍ مَجهول العواقب. لم يكُن مُفترضًا أن تتحوَّلَ هجمةُ روسيا على أوكرانيا إلى مَشهدٍ فيه من العشوائيةِ أكثرَ مما فيه مِن حساباتٍ دقيقة، والحقُّ أن زمنَنا ضاقَ عن حُسنِ التدبيرِ والتخطيطِ، واتسع لمُقامَراتٍ ضَحلة ومُؤامراتٍ خائبة، كما ناءَ بمُغامراتٍ غير مَحسوبة.
• • •
هي مرَّةٌ من مرَّاتٍ لم أعُد أحصيها، يتعدَّى فيها الباعةُ الجائلون -المُستقرون في الوقتِ ذاته- على حَرَمِ رَصيفٍ، ويمتدون منه إلى نهرِ الشارعِ فيقتطعون منه أجزاءً، ثم يتعدَّى عليهم مَسؤولو الحيّ وتدهمُهم قواتُ الشُّرطة فتدكُّ بضائعَهم، وتنتزع فرشاتِهم وتصادر ما أمكن منها. قد تجيء الهجمةُ بداعي إشغالِ الطريقِ، أو عدم الالتزامِ بمواعيدِ الإغلاقِ الرسميَّة، أو بدعوى غيابِ التصاريحِ اللازمة. المحَصّلةُ النهائيةُ إتلافٌ لرأسِ المالِ الضئيلِ الذي يأتي بشقّ الأنفُس، وإخلاءٌ وقتيٌّ لا يلبث أن يتبخَّرَ في خِضَم الازدحامِ وإلحاحِ الحاجة.
• • •
بعضُ الأحيانِ يصبح الهُجومُ بالكلماتِ أعنفَ من الهُجومِ بالأيدي؛ هجمةٌ صَريحةٌ تنتقي عبارات لا مُواربة فيها قد تُعادلُ لكمةً في الوَجه وقد تؤدي لتغييرِ الحال، فيرضخُ المَضروبُ ويفرضُ الضاربُ إرادتَه، والأداةُ في نهايةِ الأمرِ خطاب.
• • •
قُبيل بدءِ العامِ الدراسيّ، يكتسح المُصطافون الشواطئَ في هَجمةٍ كُبرى وأخيرة، يعقبها انسحابٌ تام ولزومٌ للبيوت، ثم انهماكٌ في مُراوَحةِ الدُّروس، ومُحاولاتٌ حثيثةٌ لهَجرِ المدارسِ والتفرُّغ لحضورِ الحصَصِ الخاصة التي تُلَخّص وتُوجِز، وتُعلّم الطُلَّابَ مِن أين تُؤكَل الكَتِف. الهَجمةُ التي يقوم بها أولياءُ الأمورِ لحَجز مَقاعِد أبنائِهم في مَركزِ فُلان ومَجموعةِ عِلَّان؛ ليست إلا إعلانًا عن عجزٍ مُتواصِل مُنِيَت به المدارسُ التي تَعطَّلت منذ ردحٍ من الزمانِ عن أداءِ وظيفتِها الرئيسة.
• • •
أما والحديثُ عن الهَجَماتِ؛ فلا يُمكن إغفالُ تلك الهجمةِ التي يقوم بها المُواطنون دوريًا على ماكينات صرفِ المُرتبات ما انصرَمَت أيامُ الشَّهر، كما لا يُمكن تجاهُلُ هَجمةِ المُنتظرين على الجمعيَّاتِ الاستهلاكيةِ حالَ وُصولِ التَّموين، وهَجمةِ المُتسولين في الطُرقاتِ على المَارةِ يطلبونَ المُساعدةَ بفظاظةٍ مُستَجدَّةٍ وكثيرٍ مِن الشُّعورِ بالاستحقاق، بينما تجول تلك العربات ذات الصناديق، عارضة بضاعتِها بسِعرٍ بَخس، تنادي الساكنين وتخطبُ وِدَّ السامعين؛ لكن أحدًا لا يهجمُ عليها ولا يرميها حتى بنظرَة.
• • •
في عالمِ كُرةِ القَّدم، عادة ما تمثّلُ الهَجمةُ المُرتدَّةُ خطورةً لما فيها من تبادل غير مُتوقَّع للأدوار؛ إذ قد يعجزُ الخصمُ عن الانتقالِ السريعِ من وضعيَّةِ الهُجومِ إلى وَضعيَّةِ الدفاع، ويفقد أفضليتَه في خِضَم الارتباك. تختلفُ الحالُ إن جاءت الهَجمةُ مَبنيةٌ مُنظمةٌ، يسبقها تقسيمٌ وتمريرٌ واستحواذ؛ إذ تفقد عنصرَ المفاجأةِ، ويكون الفَصلُ فيها لصالحِ الالتزامِ وحُسنِ التنفيذ.
• • •
يذكُر التاريخُ هَجَماتٍ وحشِيَّةٍ ظهرت فيها الخيولُ والجمالُ لا كدوابٍ مُسالمةٍ تتهادى فوق الأرض؛ بل كآلات قتل مُوجَّهة، حينما قامت مَجموعات الجنجويد التي رعتها السلطات في السودان لفترات طويلة والتي اتُّهِمَت بالضلوع في عملياتِ تطهيرٍ عِرقيّ؛ بالإغارةِ على قُرى دارفور، وحرقِ الأخضرِ فيها، وقتلِ المواشي، وإبادةِ البشر. لاحت هَجَماتُ الجنجويد في حكايات الناجين أكثرَ ترويعًا من الهَجَماتِ التي تطلع بها مُدرَّعاتٌ ودبَّابات؛ فبقدر ما تبدو الجيادُ والإبلُ وديعةً في الطبيعة، بقدر ما تؤدي شراستُها عند الاستثارة إلى مشهدٍ مُخيفٍ يفوقُ في ضراوتِه أمضى الكوابيس. ضحايا الجنجويد كثرٌ ومنهم من لم يَزل يسترجع في رأسِه مشاهدَ الرُّعب والدمار فينتفضُ في حينه فزِعًا، وليس مِن فراغٍ أن يؤكدَ الناسُ هناك أن كلمةَ جنجويد تعني: "جِنٌّ جاءَ على فَرَس".
• • •
للحرّ هَجمَةٌ وللبرودةِ أيضًا هَجمة، ولكُلّ شَخصٍ ما يُفضّل من فُصول؛ هناك مَن لا يحتمل الحرارةَ المُرتفعةَ ومن يخشى البردَ الزمهرير، ومن يُبدل ملابسَه قبل الأوانِ في كلتا الحالين. على كلٍ؛ صار الطقسُ عجبًا بانهيار مُقوماتِ البيئة، والأعجب أن يعقد المؤتمراتِ من بيدهم الأمر؛ فيشجبون ويهتفون بينما يفسحون المجالَ للملوثاتِ من وراء الظهور.