منذ أسابيع وَقَّع الأزهر مُذكِّرة تعاون مع هيئة اليونسكو، قالت غالبية الصُحُف أنها تهدف إلى ترويج قِيَم التسامُح والتعايُش بين الشعوب، وقد خطر لي حال مُطالعة الخبر أن فِكرة التسامُح؛ تلك التي يتبناها اليونسكو، والتي يسعي الأزهر إلى نشرها، ليست فكرة واضحة المعالم، وأن تعريفها قد يختلف مِن شخص لآخر، ومِن مكان لآخر، وقد لا يحظى بتوافق الجميع.
يبدو التسامُح أمرًا إيجابيًا وضروريًا خاصة في المجتمعات التي تضمّ عقائد وانتماءات متباينة، والتي لا يمكن أن تقوم وتنهض إلا اعتمادًا على قبول أفرادها بعضهم البعض، وإقرارهم بالاحتياج إلى التصالُح والعَيش تحت مظلة الاحترام المُتبادَل، دون أن يحاول أيهم أن يفرض رؤيته على الآخرين، ودون أن يحتكر لنفسه الصواب، ودون أن يجعل مِن معتقداته أداة لتصنيف مَن لا يدينون بها، والحقّ أن الأزهر يدعو بوجه عام إلى إعلاء قيمة التسامُح، والتعاون، ويعلن مرة بعد مرة عن أهمية قبول الآخر، لكنه على الناحية الأخرى يَظهَر عاجزًا عن تطبيق وتفعيل ما يدعو إليه.
لا يتسامح الأزهر على سبيل المثال مع الشيعة، بل يعلن استعداده الدائم لمواجهتهم، ووقف خطرهم، ودحر نفوذهم، وأحيانًا ما تُفهَم رسائله تلك على أنها ضرب مِن ضروب استعداء المجتمع عليهم، فتنعكس في عديد التصرفات والأفعال، وقد أوفد الأزهر في السنوات القليلة الفائتة أئمته ودُعاته إلى جهاز "الأمن الوطنيّ"، ليسهموا في تدريب الضباط على التعامُل مع "المدّ الشيعيّ"، حيث بدت الشَراكة الصريحة بين المؤسستين؛ الأمنية والدينية في هذا الأمر خبرًا مُفاجئًا وعجيبًا.
في السياق ذاته لا يتسامح الأزهر مع طوائف ومجموعات أخرى من المواطنين؛ لا مع البهائيين، ولا القرآنيين، ولا أعلن أبدًا استعداده للتسامُح مع المُلحدين، بل صَبَّ جلّ جهده في سبيل إعادتهم إلى حظيرة الإيمان، بحيث صار قبوله لوجودهم مَشروطًا بتغيير أفكارهم، والتخلّي عنها لصالح أفكار أخرى، يراها الأزهر صوابًا مُطلقًا، ولا يريد أن يرى غيرها.
***
قال البابا فرنسيس – بابا الفاتيكان- في إحدى خطبه عام 2013: "علينا أن نلتقي سوياً في عمل الخير.. لكنني لست مؤمناً يا أبتاه أنا ملحد.. لا بأس إفعل خيراً وسنلتقي سوياً في النعيم." لا ينفك الرجل يدهش متابعيه فعبارته تلك عكست إدراكه العميق أن الآخر موجود سواء قبل به، أو نفاه ونبذه واستبعده، وأعلن كُفره ومعصيته. إدراكه أن محاربة هذا الآخر، وتسفيه مُعتقده أيًا كان، واستعداء الآخرين عليه، لا يخلق مجتمعًا صحيًا، بل مشوهًا وضعيفًا، وربما تعكس العبارة أيضًا اعتراف البابا فرانسيس بأن ثمّة مساحة دائمة للشكّ وأنها حقّ للجميع، وأن ثمّة مساحة أخرى يحتمل فيها كلُّ اعتقاد الخطأ، مهمًا بدا سليمًا وبراقًا.
مثلما لا يتسامح الأزهر مع أصحاب معتقدات متباينة متعلقة بالدين والإيمان، فإنه لا يتسامح مع أصحاب الآراء المختلفة في حقول أخرى؛ منها ما ارتبط بالبحث العلميّ، ومنها ما جاء لصيقًا بالفعل السياسيّ. نشرت الصحف مؤخرًا قرار جامعة الأزهر فصل عشرة مِن الطلاب بدعوى أنهم أساءوا إلى الجيش، وهو فعل قد يدخل تحت بند حرية الفكر والتعبير مهما بدا قاسيًا، وأيًا كان تعامُل السُلطة معه، فإن الجامعة لا يمكن أن تدخل طرفًا في التنكيل بطلابها على خلفية رأي، أو انتماء سياسيّ.
على الجانب الآخر أوقف الأزهر رسالة عِلمية وحرم صاحبتها الحصول على درجة الدكتوراة، لا لأسباب وحُجَج تطعن في مَنهج الدراسة أو الإجراءات التي اتبعتها، بل لأخرى لا تمتّ إلى العِلم بصِلة. كان العنوان الذي اختارته الباحثة هو: "التكييف الفقهيّ للثورات"، ويبدو أن المسئولين الأزهريين استشعروا أن هذا العنوان يشذّ عن الخطوط العامة المقبولة، وأنه لا يأتي على هوى السُلطة، فما كان منهم إلا أن أمروا الباحثة بإعادة الرسالة وتغيير محتواها، وقِيل على لسان مُستشار رئيس جامعة الأزهر لشئون الدراسات العُليا أن الرسالة "تم إلغاؤها لما فى هذه الأمر من إثارة وعدم ملاءمتها للفترة الحالية نظرا للظروف التى تمر بها البلاد". لم تكن تلك هي الواقعة الأولى فقد أعلن الأزهر مِن قبل عن وقف رسالة علمية، وحِرمان صاحبها مِن الحصول على درجة الماجيستير لمجرد أنه استخدم في متنها مُصطَلَح "انقلاب". نشرت الصحف أن المشرفين أُحيلوا في المرتين إلى التحقيق، ولا نعرف حتى الآن ما آلت إليه الأمور.
***
لا يكون التسامُح بداهة مع مَن هو يشبهني، مَن يرتدي مثلما أرتدي، ويأكل مِثلما آكل، ويدين بما أدين، ويفكّر مثلما أفكّر، التسامُح يقتضي الاعتراف بمَن يختلِف ومَن يخرج عن الإطار، يقتضي قبوله على ما هو عليه دون مُحاولة تعديله وتشكيله، التسامُح يكون مع المُغاير، وإلا ما كان تسامحًا ولا قبولا، بل تعالِيًا وغرورًا، ومحاولة لفرض رأي واحد ومعتقد واحد وشكل واحد للحياة، فإذا امتد الأمر إلى استخدام صلاحيات بعينها للتضييق على الآخر المختلف، صرنا أمام شكلٍ مِن أشكال التمييز والتسلُّط الكريه.
ربما كان علينا أن نتصالح مع أنفسنا أولا، وأن نفسح في صدورنا براحًا لمن لا يشبهوننا؛ سياسةً وفنًا وفِقهًا وعِلمًا، ثم لنتوجه بعد ذلك إلى العالم الخارجيّ. عبارة مُكرَّرة فقدت أثرها لكثرة ما انطبقت عليهم في أيامنا: فاقد الشيء لا يعطيه.