الإجابة المباشرة والمختصرة على السؤال الذى يطرحه عنوان المقال وتضطرب به حناجر وأقلام الإعلاميين هى: نعم وبكل تأكيد. ستكون هناك دائما حاجة إلى تحريك سعر صرف الجنيه المصرى مقابل الدولار الأمريكى، إذا ما استمرت الفلسفة الاقتصادية دون تغيير. التغيير المطلوب يجب أن يكون هيكليا؛ يشمل السياسات والبرامج وبعض الأشخاص. الإدارة التقليدية لدولاب العمل الحكومى شديدة الصعوبة، ولا يمكن أن ينكر عاقل منصف الجهود الكبيرة التى يقوم بها رئيس مجلس الوزراء وفريق الحكومة كاملا. تلك الجهود تصلح لتسيير الأعمال، ومطلوبة لصد الصدمات الخارجية المتلاحقة، ولتوفير أقوات الناس اليومية. وهى جهود مثمّنة من قبل القيادة السياسية ومن قطاع عريض من الجماهير. لكن المطلوب الآن (بعيدا عن حجم الوقت والعرق المراق) هو سياسات جديدة مبتكرة، إعمال للعقل أكثر من المفاصل والعضلات، وتخطيط للمستقبل بأدوات معاصرة، تسمح لمتخذ القرار بابتكار مسارات مختلفة تماما، دون حرج أو خشية من الرفض المتوقع لكل ما هو جديد ومبتكر.
• • •
الأداء المبهر لمؤشرات الاقتصاد الكلى لمصر فى ظل أزمتى كوفيدــ19 والحرب فى أوكرانيا، والذى تناولنا محدداته بشىء من التفصيل فى مقال سابق بعنوان «دلالات الأرقام»، لم يؤثر على قرار وكالة التصنيف الائتمانى الدولية «فيتش» الذى صدر مطلع الشهر الحالى، والذى تضمّن تغيير النظرة المستقبلية للجدارة الائتمانية للبلاد إلى نظرة سالبة. هذا التصنيف ــ وفقا لوكالة «بلومبرج» ــ قد عزته «فيتش» إلى «تدهور وضع السيولة الخارجية لمصر، وتراجع إمكانية الوصول إلى أسواق السندات الدولية، ما يجعل البلاد عرضة لظروف عالمية معاكسة، فى ظل اقتراب آجال استحقاق ديون خارجية مرتفعة، وتراجع الاحتياطيات الأجنبية لدى البنك المركزى المصرى إلى أقل من 32 مليار دولار بحلول أكتوبر 2022، هبوطا من 35 مليارا فى مارس، و40 مليار دولار فى فبراير من العام نفسه، وبالتالى فإن تغطية الاحتياطيات لما يزيد قليلا على ثلاثة أشهر من الدفعات الخارجية الحالية، هو أضعف من المتوسط (B) والذى يضمن تغطية فاتورة الاستيراد لمدة أربعة أشهر فقط».
وكالة التصنيف أشارت إلى أنه رغم ارتفاع أصول البنك المركزى بالعملات الأجنبية غير الاحتياطية، ومعظمها ودائع فى البنوك المحلية، إلى 2 مليار دولار بحلول أكتوبر، من 1.5 مليار دولار فى مارس 2022، إلاّ أنها لا تزال أقل كثيرا من مستواها فى فبراير البالغ تسعة مليارات دولار.
هذا الوضع لا يمكن أن تغيّره البيانات المعلنة عن ارتفاع حجم الناتج المحلى الإجمالى بأسعار السوق إلى مستويات قياسية، بمعدّل نمو حقيقى (متذبذب) يحده معدّل تضخم يفتقر إلى التدقيق، ومعدّل ادخار محلى متواضع (حول 6%)، لا يمكن أن يتحقق عنده معدل استثمار يقترب من 18% على الأقل، وهو المعدّل المقبول لاستدامة معدّل نمو الناتج المحلى الإجمالى عند مستوياته المستهدفة فوق 7% سنويا.
لا غنى إذن عن جذب الاستثمار الأجنبى لسد تلك الفجوة، ولتخفيض الارتكاز على الديون لتمويل احتياجات التنمية. تحتاج مصر إلى تخفيض الاعتماد على الدولار الأمريكى بشكل عملى وسريع، كما تحتاج إلى أدوات مبتكرة لتنويع وزيادة إيرادات النقد الأجنبى دون إمهال.
• • •
الإدارة الاقتصادية فى مصر الآن تعيش حالة توازن طويل الأجل، يعرف الاقتصاديون أهمية وخطورة تلك الحال. نلتمس التوازن فى الأسواق بين العرض والطلب، تتحقق توازنات عدة طوال الوقت بين عرض الوظائف والطلب عليها، وبين المعروض من المواد الغذائية وما هو متاح منها فى الأسواق، سواء كان منتجا محليا أو مستوردا من الخارج، نلتمس التوازن بين المعروض النقدى والطلب عليه... لكن التوازن المرغوب فيه لا يتحقق إلا عندما يتميز بالكفاءة والشمولية، وحالما تغيب البدائل التى يمكن أن تحقق توازنا أفضل فى ضوء ما هو متاح من الإمكانات والقدرات.
التوازن طويل الأجل يفرض على أطرافه نوعا من الرضا المطلق بالوضع الراهن، ويقوّض التغيير الذى من شأنه العبث بحالة التوازن تلك بصورة مرهقة للابتكار ومعاقبة له. تخيل أنك تعيش حالة من التوازن النفسى والمادى فى بيتك، ترفض أى نوع من التجديد أو المخاطرة بخوض تجربة غير معتادة خشية فقدان التوازن. تخشى السفر أو تجربة مشروع استثمارى أو خوض أى نوع من التجارب... ذلك التوازن الذى تعيشه ليس وهما وليس استقرارا أيضا، لكنك ببساطة ترفض أن تختبر أى وضع بخلافه، كونك اعتدت عليه.
الخروج من وضع التوازن غير المرغوب فيه للملف الاقتصادى، يتطلب بناء منحنيات سواء جديدة تعكس مستويات أكبر للإشباع والمنفعة، عند مستويات أعلى من الدخل (المقصود بمنحنيات السواء تلك التى تتساوى عندها منفعة المستهلكين لمجموعات سلعية، ويمكن استخدامها فى هذا السياق مجازا كمعبّر عن الطلب العام فى المجتمع). لا يتحقق ذلك علميا إلا بأسباب مستحدثة. الابتكار فى ملف الطاقة مثلا وما ينطوى عليه من فرص وتحديات عظمى، لا بد أن يقابله نوع من المقاومة من قبل أصحاب وضع التوازن الحالى، الذين يميلون إلى معادلة مزيج الطاقة وفقا لاعتبارات تتصل بطبيعة إدارة المرفق عبر سنوات، وحجم وهيكل المديونية الناشئة عن الاستثمارات فى القطاع... لكن اعتبارات أخرى لا يمكن أن تقبل بسهولة، حتى وإن وفّرت على الدولة مليارات الدولارات مستقبلا، إن هى أخلّت بطبيعة المعادلة التى اجتهد أصحابها فى صياغتها عبر سنوات، ولا يرون خيرا منها كبديل مقبول.
نفس الشىء يمكن قوله على إدارة المالية العامة، والإصرار على تحقيق فائض أولى هزيل لا يزيد على 1.5% إلى 2% أمام أعباء غير مسبوقة لخدمة الدين العام، تزيد على ثلث المصروفات فى الموازنة العامة. (المقصود بالفائض الأوّلى ببساطة صافى إيرادات الدولة بعد سداد المصروفات باستثناء خدمة الدين). كذلك يتضح من أثر التغييرات التى تم إدخالها على إدارة القطاعين الماليين المصرفى وغير المصرفى، أنها كسرت حالة التوازن التى كان يصدّرها القائمون على هذين القطاعين. بدأ الأثر الإيجابى يتضح تدريجيا بتغيير فى القيادات، استتبعه بالضرورة تغيير فى فلسفة الإدارة، وتحديد الأولويات، بل وانسحب الأثر إلى جودة ودقة البيانات التى تصدر عن البنك المركزى المصرى، ومن ذلك معدّل التضخم الأساسى والذى ارتفع (على غير المعتاد) عن معدّل التضخم العام الذى يصدر عن الجهات التابعة لوزارة التخطيط !.
• • •
الرضا بالوضع الاقتصادى العام، وعدم الرغبة فى التطوير حرصا على التوازن المشار إليه، أصاب عددا من الجهات بالخمول والترهّل ومقاومة التغيير، واعتبار أى نقد بنّاء بمثابة هجوم خارجى يستهدف الاستقرار والأمن الاقتصاديين. من أهم متطلبات التغيير الجاد استحداث وزارة للاقتصاد، وضمان تفعيل دور وتحقيق استقلالية هيئة الاستثمار بعد تطعيمها بعناصر قادرة على فهم متطلبات المستثمر. كذلك يتعيّن إطلاق يد متخذ القرار فى اختيار القيادات الجديدة بالقطاعات المختلفة. لا يمكن أن تكتمل مقوّمات القيادة دون صلاحيات فى اختيار الفريق المعاون على أسس من الكفاءة والقدرة. النجاح فى ظل الظروف الصعبة والتحديات المريرة مشروط دائما باختيار القيادات القادرة على التغيير. والتاريخ يخبرنا بأن اكتشاف هذا النوع من القادة هو موهبة يمتلكها القلة، وتعطيل تلك الموهبة بوضع قيود غير موضوعية على عملية الاختيار، تتسبب فى تعطيل مسيرة الإصلاح فى مختلف المؤسسات.