استعادة حب الحياة.. برلين فى أعياد الميلاد - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 8:27 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

استعادة حب الحياة.. برلين فى أعياد الميلاد

نشر فى : الجمعة 21 ديسمبر 2018 - 10:55 م | آخر تحديث : الجمعة 21 ديسمبر 2018 - 10:55 م

كغيرها من المدن الألمانية، تتجمل برلين كثيرا خلال أعياد الميلاد. تعلق الزينات والأنوار فى الميادين والشوارع الرئيسية، وتغطى أسواق الأعياد جميع أحياء المدينة. أخفق الإرهابيون الذين نشروا الموت والدماء فى ساحات بعض الأسواق فى العام الماضى، أخفقوا فى فرض الخوف على الناس والقضاء على الأجواء الاحتفالية. وها هم الناس يعودون إلى الأسواق بكثافة تتحدث عنها وسائل الإعلام الألمانية، وها هى سلطات برلين تتعلم من جرائم الإرهابيين وتتولى فى ٢٠١٨ تأمين الأسواق بجدية وتشرك المواطنين معها فى تحمل الأعباء المالية لخدمات التأمين
(بحملهم على شراء تذاكر لزيارة أسواق الميلاد الكبيرة).
أما الأجمل من مشاهدة الزينات والأنوار والتجول فى الأسواق فهو ملاحظة تبدل الحالة المزاجية للناس خلال الأعياد. يذهب الخريف بابتسامات الأغلبية، وتغيب الوجوه المتفائلة مع غياب الشمس وحجب السحب الكثيفة لشعاعها الجميل. على الرغم من روعة ألوان أوراق الشجر فى الخريف ومع أن أهل برلين يكثرون من زيارة مناطق الغابات والمنتزهات العامة بين شهرى أكتوبر ونوفمبر، فإن المدينة وميادينها وشوارعها تبدى حزنا ظاهرا على انتهاء أيام الصيف وتقع أسيرة للمعاناة من رمادية النهارات وقسوة انتزاع الظلام للعدد الأكبر من ساعات اليوم وتخييمه على جميع الأرجاء. وتعكس وجوه الناس حال المدينة، فتتغير الملامح وتتغير ألوان الملابس لينتشر العبوس ويطغى الرمادى والأسود على كل ما عداهما. ثم يأتى ديسمبر ومعه الوعد بأعياد الميلاد وعطلاتها وعطلة نهاية العام، ومعه أيضا تتبدل الحالة المزاجية للناس. تبدو أغلبية الوجوه وكأنها استعادت حبها للحياة ورغبتها فى السعادة وبحثها عن لحظات الفرح وإقبالها على الانطلاق بين أرجاء المدنية. تعلق الزينات والأنوار لتناطح سيطرة الظلام الطويلة، وترتفع أصوات الكبار والصغار فى أسواق الأعياد والمحال المختلفة لتخبر فيما وراء السحب الكثيفة عن أناس يعيشون ويغنون ويفرحون. وإن كان لحب الحياة الذى يتحدى به أهل برلين الخريف وظلامه السلبى من الآثار المتمثل فى النزعة الاستهلاكية التى باتت تقترن بأعياد الميلاد والتى لا يتخلص من فكاكها إلا القليل، غير أن ذلك لا يقلل أبدا مما تقدمه أيام الأعياد للناس ويعينهم على تجاوز العبوس والرمادية.
أعياد الميلاد هى أيضا أيام الاحتفالات المتواصلة فى أماكن الدراسة والعمل ومؤسسات الرعاية الصحية وجمعيات رعاية كبار السن وملاجئ مساعدة الفقراء. هنا أيضا يتغلب حب الحياة على الخريف وحزنه وظلامه، هنا يظهر الناس تقديرهم لزملائهم فى الدراسة والعمل وتعاطفهم مع المرضى وكبار السن والفقراء والمشردين، هنا يصير التضامن الاجتماعى الشعور الأوضح فى المدينة وتتنقل ساحاته بين مختلف الأرجاء التى لا تصل إليها أسواق الميلاد. فى تلك الاحتفالات، يكرم الصامتون فى المدارس والجامعات من عمال وموظفين بدونهم لن يتمكن الأساتذة من تقديم خدماتهم التعليمية ولا التلاميذ والطلاب من تلقيها. فى تلك الاحتفالات، يتذكر الناس أقاربهم من المرضى والمسنين ويعينونهم وإن للحظات قصيرة على تجاوز المشاعر السلبية بوطأة المرض والوحدة والعجز ودنو الأجل. فى تلك الاحتفالات، يخرج المجتمع من صمته على الفقر والتشريد ويتضامن لرعاية الفقراء والمشردين الذين يقسو عليهم الشتاء وينزل بينهم الموت الفتاك. وتتولى الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى تقديم المساعدات المالية والعلاجية والغذائية للفقراء والمشردين، وتمكنهم هم أيضا من الاحتفال بأعياد الميلاد.
ولا يقل جمالا عما سبق حقيقة أن التنوع الدينى والعرقى الذى أصبح واقعا معاشا فى برلين وغيرها من المدن الألمانية صار يصبغ أعياد الميلاد بألوانه المتنوعة. فى الأسواق، يجد المتجولون المنتجات التقليدية من مشروبات ومأكولات الأعياد الألمانية وبجانبها حلوى تركية وحلوى عربية أشبه بحلوى مولد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) كما نعرفها فى مصر. تعرض فى المحال ملابس الشتاء المصنوعة يدويا فى مدن ريفية وقرى صغيرة خارج برلين، وتعرض أيضا منتجات يدوية من الهند وبلدان إفريقية وآسيوية وأمريكية لاتينية. وفى الاحتفالات المدرسية بأعياد الميلاد التى يعزف ويغنى بها التلاميذ أغانى الميلاد التقليدية، فى تلك الاحتفالات بات التنوع الدينى والعرقى ظاهرا فى أسماء التلاميذ وأساتذتهم. ففى احتفال الأعياد الذى نظمته مدرسة «فريدريش شيلر» الإعدادية والثانوية فى حى «شارلوتنبورج» ببرلين، على سبيل المثال، قام بالغناء بجانب عديد التلاميذ ذوى الأسماء الألمانية القحة بعض ممن يحملون أسماء تركية وعربية وآسيوية وقدمت الاحتفال تلميذة ذات أصول يابانية وعزف على البيانو نوح حمزاوى.
كل عام وأنتم بخير.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات