أحلام غراب - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:44 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحلام غراب

نشر فى : الجمعة 21 ديسمبر 2018 - 10:50 م | آخر تحديث : الجمعة 21 ديسمبر 2018 - 10:50 م

كان الشجر مُورِقًا، والزهر يانعًا، والسحابُ على سجيته سابحًا، مُتناثرًا بنعومة في السماء، والورى في حِلّ مِن الهمِّ، وعِصمةٍ مِن الغمّ، ومِنعَةٍ مِن الضَيم والشَقاء؛ كُلٌّ في حال المَسرَّةِ والصفاء؛ لا ألمع ولا أفضلَ منها حال.

***
في زاوية مِن زوايا الحديقة، بين تغريد الطيور ووهج الفراشات، راح يتريض غرابٌ؛ وقد بدا في ردائه المُتجعد غريبًا، ولم يكن بيده سوى بضع وريقات. لم ينم منذ ليال مُتعاقبة؛ سقط في جُبّ القلق ولفّه السهاد، وانتفخت جفونه وحلَّت مَحَلَّ عينيه كرتان باهتتان؛ مع ذلك ظلَّ يفكر ليلَ نهار، ويقدح زناد الأفكار، ولما لم يصل إلى ما يريح نفسه، ويطبّب حيرته وجزعه، غادر مَكمنه إلى الحديقة، لعلَّ في هوائها ما ينعش ذهنه، ويجدد عزمه، ويجلو الصدأ عن روحه، ويصل به إلى حلول وبدائل وإجابات.

***

لم يفلح بعد أشهر مِن المُحاولات المُتواصلة في الحصول على تأشيرة؛ أي تأشيرة مِن شأنها أن تنقذه وتبدد مِن ملامحه قتامةَ التقطيبة. مُحاولة فاشلة هنا، ومثلها هناك؛ لا بلد يريده، ولا سفارة ترأف بحاله وتغيثه. لا حرفة نادرة، لا خبرة مُغرية، ولا شهادة تصوره نابغةً؛ لا عقد عملٍ في مُتناول يده، ولا حدود تسمح بمروره في غفلة مِن الحراس والنواطير والزمن.

***

كتب غرابٌ رسائلَ للأصدقاء في أرجاء المَعمورة، وللأقرباء. ملأ استماراتٍ مُطولة واستخرج ما استطاع مِن مُستنداتَ، أرفق صورًا وأصولًا ومعلوماتَ، لكنها لم تكن كافية لانتشاله مِن بحر الرمال المتحركة؛ الذي راح يبتلعه شيئًا فشيء، دون أن يجد فرصة للتشبث بقشة، أو حتى لإطلاق صرخة. رجته أمُه أن يحاول مرة ثانية وعاشرة، وأن يسعى للخروج سعيًا حثيثًا مُثمرًا؛ خشيت أن يذوي أمامها، أو أن تصيبه عاديةٌ مِن العوادي، تدفعه كآخرين للاختفاء والتلاشي؛ بفعل قوةٍ قاهرة. ألحت عليه رغم أنه أكبر أولادها، كي يعيد المحاولة؛ إلى أن استنفد مرات الرسوب، وغدا في أحلك قائمة.

***
لم يصرف غرابٌ عن السفر النظر، ولا ادخر وسعًا لتحقيق الهدف الذي لم يعد في جعبته إلاه؛ إذ كان يدرك أكثر منها ومن أي كائن كان، ما قد يخبئ في جعبته القدر. الأجواء غائمة، والسحب ترعد زائمة، والسيل جارف لا يرحم ولا يذر؛ لكن البحث عن حيلة أعياه، وأنهكه الرفض المُتكرر وأضناه.

***

رفع الوريقات التي حملها معه مِن البيت بلا سبب، وقربها مِن وجهِه المَكدود التَعِب، وقرأ على نفسه ما حَوَت مِن جديد. اسم ثلاثيّ وعنوان ورقم، وكلمات مُبعثَرة كنبشِ الدجاج؛ تثبت حاجته المزمنة، وتكفل له فتاتًا يقيم أوده بالكاد، ويبقيه على قيد الحياة من شهر إلى شهر. حدق في الكلمات وراح يفكر في المبررات وما استجد من أسباب ومسوغات؛ كي يتناقص عدد الأرغفة التي ينالها بشقّ الأنفاس إلى النصف، وينخفض ما يتحصل عليه في اليوم من لقيمات؛ بما لا يسدُّ الرمق.

***

قالوا إنه لا يستحق إعانه ولا يحتاج أكثر مما لديه؛ عنده ثلاجه، وعنده حذاء، ثم أنه يملك أيضًا دراجة، يمارس بها الرياضة لساعات؛ باحثًا عن وظيفة. لم يكن التهور مِن شِيمه، ولا كان الغضب السريع خصلةً في خلقه، لكنه حين وقعت الواقعة لم يتمالك نفسه، وأمسك بحجر.

***

دَسَّ الورقيات في الجيب المُهلهَل على مَهل، فنفذت أصابعه مِن الثقب المتسع بلا خجل. في الأمر ما يلفظه المنطقُ ويأباه، ثمَّة عقابٌ دون جرم؛ لا يُعرَف مُنتهاه، وقد طال به الوقت وأسِنَت الحياة، عسر وراء عسر وشظف ينبثق عن شظف.

***

حلمٌ واحد ليس سواه، يزوره كلما أغلق عينيه، وكلما سكَّ شرنقته عليه. حلمٌ بالفرار يأتيه في صور كثيرة مُشتهاه، تتطابق نهاياتها وتلتقي؛ تارة يحلم بأنه طائرٌ يحمله جناحان عريضان، وتارة أخرى بأنه على متن طائرة تشق السماء، وثالثة بأنه في مركب يجاهد للوصول إلى برّ لم يطأه مِن قبل. رغم تواتر المنامات، لم يبق غراب في غفوه أبدًا ما يكفي؛ ليكمل نهاية الحلم. أحلام غراب.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات