مركز الجاذبية.. بالعربى - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 1:24 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مركز الجاذبية.. بالعربى

نشر فى : الأربعاء 21 ديسمبر 2022 - 7:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 21 ديسمبر 2022 - 7:50 م
حاولت ألا أتدخل فى حديث بين ابنى وصديقه حين رافقتهما فى مشوار أخيرا. امتنعت عن حشر نفسى فى القصص وقررت أن أختفى فى كرسى القيادة وأنصت إلى النقاش دون أن أقحم رأيى فيما كانا يقولانه. بعد أن وصلت وابنى إلى البيت سألته عن بلد صديقه إذ كان الحديث باللغة الإنجليزية فرد ابنى أن الصديق من لبنان. سألت لماذا إذا اختارا اللغة الإنجليزية كلغة مشتركة بين لبنانى ومصرى بنصفه سورى (ابنى) فقال لى ببساطة إن صديقه لا يتحدث باللغة العربية.
• • •
لم تكن هذه المرة الأولى التى ألتقى بها بشباب من الطبقة الوسطى ممن أسميهم «جيل اليوتيوب» وألاحظ عدم استخدامهم للغة العربية كأداة للتواصل مع أقرانهم والعالم من حولهم. كما لاحظت أن شح المصطلحات والفقر فى التعبير حين يتحدث جيل المراهقين اليوم بالعربى، وكأنه استخدام محدود الرؤية. أظن أن لذلك عدة أسباب بعضها مرتبط بالطبقة الاجتماعية التى ينتمون إليها وبدراستهم فى مدارس تبدى اللغات الأجنبية على العربية (وترى، وربما بحق، فى ذلك مصدرا للجذب). كما يمضى أولاد هذا الجيل وقتا كبيرا فى متابعة مسلسلات أجنبية يختارونها ولا يفرضها عليهم برنامج قناة أرضية ربما وحيدة فيحفظون مع أقرانهم حوارات مسلسل مصرى أو سورى.
• • •
أيا كانت الأسباب، والتى ممكن أن نفندها فى دراسات عن تغير المجتمعات العربية، ومع تأكيد البعض أن الطبقات المتوسطة وما فوقها لطالما لجأت إلى اللغات الأجنبية كخيار أول قبل اللغة العربية، إلا أننى لاحظت فى السنوات الأخيرة أن المعجم قد أضْيقّ أكثر مع دخول العامية على الكتابة وتبادل للمواقع صار أكثر قبولا بين العامية والفصحى. طبعا تدنى مستوى التعليم فى القطاع الحكومى فى كثير من البلاد العربية هو المسبب الأكبر لتدنى مركز اللغة العربية. أسباب متعددة ضمنها انحسار الإنتاج الفكرى والبحثى والثقافى الصادر من المنطقة العربية، فى العدد وفى التداول (مثلا عدد الكتب التى تطبع وتباع سنويا فى المنطقة)، ساهم فى انحسار التواصل والنشر عموما بالعربى.
• • •
أترك دراسات علم المجتمع للمختصين، وسوف أستخدم خلاصات الدراسات قطعا فى المحافل التى أحتاج فيها للنقاش العلمى أو الأكاديمى. أنا هنا أحاول أن أحافظ على لغة البيت وأن أوسع بقدر ما أستطيع المجال فى أحاديث عائلتى اليومية لدخول كلمات جديدة على أولادى باللغة العربية الفصحى والعامية وترسيخ استخداماتها المتعددة. لا أعرف إن كانوا، أى أولادى وكثيرون من عمرهم، يمتصون فعلا اللغات من خلالى، أى الأم، فهى فى الآخر لغة الأم، لكنى أريدهم أن يفهمونى ويفهموا عواطفى باللغة العربية.
• • •
يقال إن من يتحدث أكثر من لغة يصبح أكثر من شخص، وأن مع كل لغة تظهر شخصية مختلفة. يقال إن الحب باللغة الفرنسية أو الإيطالية والحرب باللغة الإنجليزية وغيرها من الكليشيهات والصور النمطية المرتبطة بالتاريخ والثقافة الشعبية. أنا عن نفسى، تخرج كلماتى العربية من مكان أظنه مركز الجاذبية فى داخلى. هناك لا تصل فلاتر السنوات التى تخنق العواطف وتبطئ من التلقائية. فى نقطة بين قلبى ومعدتى تختلط مشاعرى أمام كل حدث فينعقد لسانى ريثما أتحسس نفسى بحثا عن التعبير الملائم. أكون كمن يمشى فى غابة استوائية يبعد عن وجهه وطريقه الأغصان، هكذا أبعد الفلاتر بحثا عن توصيف دقيق للفرح أو الخوف أو الشك أو الغضب والامتنان فتخرج كل كلمة لتلتصق بالشعور لحظتها وأعرف أننى أحس وأشعر بالعربى.
• • •
كثيرا ما أسمع تعليقات ممن حولى عن لهجتى الدمشقية الواضحة، أنا من أم دمشقية وأب حلبى لكنى لم أعش فى حلب رغم تعلقى من بعيد بكثير من عاداتها المجتمعية وقصصها. حين انتقلنا للعيش فى الأردن بعد سنوات فى القاهرة، سألنى ابنى الأوسط لماذا يتكلم الأردنيون باللهجة الشامية وقصده لهجة دمشق، أى لهجتى، لغة الأم حرفيا بالنسبة لأولادى. لم يسمع ابنى اللهجة الشامية سوى منى ومن عائلتى فى سنواته الأولى فاستوقفته اللغة فى الأردن ولم يكن جاهزا لبلد بأكمله يستخدم كلمات أقرب إلى كلمات أمه. صار ابنى يعود من لقاءات فى بيوت أصدقائه الجدد ويصف لى طريقة كلام والداتهم ليفسر أنهن «شاميات»، وبعضهن فعلا من أصول سورية. أحببت اللعب بالكلمات مع ابنى، أحببت أنه وسع من رقعة لغته الأم الشامية ليسأل عن الشام بالمعنى الواسع. استمتعت جدا بربطه بين اللهجات وتاريخ المنطقة وصرت أنتظر أسئلة صعبة عن السياسة والحكومات والاحتلال والحروب والحركات الاجتماعية والثورات من ابنى وهو يدخلها من خلال اللغة العربية ومقارنة اللهجات والمفردات.
• • •
لا أعرف بالتحديد سر إصرارى على أن لغة البيت هى لغة الأم، مع تقبل تغيير اللهجة حين يدخل زوجى المصرى إلى المشهد. لست شوفينية ولا عروبية بالمعنى القديم الرومنسى السياسى، لكنى شجعت المنتخب المغربى خلال لعبه فى بطولة كرة القدم واستغربت تشجيع أولادى للمغرب وهم من بيت لا يتغنى بالضرورة بنجاحات العرب التى بت أراها بعيدة ولا تغطى على كآبة الواقع. ربما هناك أيضا داخل قلب أولادى مركز جاذبية بالعربى، بالفطرة ودون فلاتر، يستيقظ ويوقظ فيهم اللغة مع كل فوران للمشاعر. أعترف أننى جدا سعيدة أن ثمة نقطة دفينة فى داخل أولادى تنطق بالعربى!

كاتبة سورية
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات