(المؤقت) وإصلاح الإعلام - نجلاء العمري - بوابة الشروق
الإثنين 30 سبتمبر 2024 2:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

(المؤقت) وإصلاح الإعلام

نشر فى : الأحد 22 يناير 2012 - 9:10 ص | آخر تحديث : الأحد 22 يناير 2012 - 9:10 ص

كتبتُ سابقا عن الخطأ الأكبر الذى قد يقع فيه البعض عندما يتصور أن إصلاح الإعلام سيحدث بمجرد وصول قوى التغيير إلى السلطة. فالتجربة تقول إن النظرة إلى المنظومة الإعلامية من موقع الثورة والتغيير ليست كمثيلتها من موقع السلطة حتى مع توافر حسن النوايا. ومحاولات الاستئثار والهيمنة فى العادة ما تتشابه، وقد لا تختلف إلا فيما يساق لها من مبررات.

 

فى تونس ــ التجربة التى ما زلت أتحدث عنها لأنها لا شك بها الكثير من الدروس المفيدة بحسناتها وسيئاتها ــ قامت حكومة حمادى الجبالى المنتخبة بعد الثورة ولكن «المؤقتة» بإحداث تغييرات واسعة فى قطاع الإعلام. فأصدرت قبل أقل من أسبوعين مرسوما بتعيين إدارة جديدة للتليفزيون التونسى بالإضافة إلى مدير للأخبار ورؤساء تحرير للصحف التى تمتلكها الدولة.

 

الإجراء على هذا النحو قد يبدو «طبيعيا» و«مقبولا» لو لم تكن هناك المرحلة الانتقالية والحكومة «المؤقتة» والأهم، «الحالة» الانتقالية التى تعيشها البلاد. القرار الذى أعلن عنه مع الساعات الأخيرة للأسبوع فى ليلة السبت وقبل بداية يوم العطلة الرسمية  «الأحد» لامتصاص موجة الغضب المتوقعة، آثار زوبعة فى أوساط الصحفيين تشكل المواجهة الأكبر بين «الحكم» وقطاع الإعلام بعد الثورة، أكبر من أى أزمة عرفتها الحكومة الانتقالية «غير المنتخبة». وهنا تكمن أيضا المفارقة والخطر. أن تكون المواجهة مع الحكومة التى أتت من صندوق التصويت أكبر من تلك التى جاءت بالتعيين لإدارة البلاد بعد زوال النظام القائم.

 

 

منطق «هيبة الدولة»

 

ما إن صدر القرار حتى تناوله الإعلاميون والصحفيون على صفحات فيس بوك، ودعوا مباشرة إلى التصدى له. لكن الزخم الأكبر والمواجهة الحقيقية جاءت ــ وأيضا بعد ساعات قلائل ــ فى بيان صدر فى منتصف الليل تقريبا من الهيئة «المؤقتة» لإصلاح الإعلام، وهى الهيئة التى شكلتها حكومة الغنوشى بعد الثورة مباشرة وعهدت إليها بمهمة دراسة الأوضاع الإعلامية وتقديم مقترحات الإصلاح مع محاولة التنظيم انتظارا لهيئة دائمة. بيان الهيئة أدان وبلهجة قوية محاولات السيطرة من قبل الحكومة المنتخبة على قطاع الإعلام وتدخلها السافر فيه من خلال انتهاج أسلوب التعيين دون مشاورة لأى أطراف. وقال بالنص الواحد: «إن القرارات ُاتخذت فى اتجاه معاكس لما هو معمول به فى الأنظمة الديمقراطية والوعود التى قطعها رئيس الحكومة على نفسه «.ردة الفعل القوية هذه زاد منها أنها المرة الأولى التى تطال فيها  التعيينات غرف تحرير الأخبار بتعيين رؤساء لها ــ وهو ما لم يفعله حتى نظام بن على الذى كان يترك هذه المهمة إلى رؤساء المؤسسات الإعلامية ــ وإن كان بالطبع يدير اللعبة كلها من وراء الستار.

 

البيان الذى ُوزع على جميع وسائل الإعلام وعلى الإنترنت ــ دعا إلى ضرورة أن تتراجع الحكومة عن  التعيينات وأن تأخذ بتوصيات الهيئة بان تكون تسمية القائمين على المؤسسات الإعلامية من خلال عملية تشاور واسعة تتسم بالشفافية. الاحتجاج كان على مبدأ «التعيين» ولم يكن اعتراضا على الأسماء.  فالتعيينات لم تشمل اسما واحدا من المنتمين لحزب الأغلبية، أى حركة النهضة. وبعض هذه الأسماء إن لم يكن معظمها يحظى باحترام الإعلاميين ومشهود له بالكفاءة والخبرة. ومدير أخبار التليفزيون الذى لم يتمكن حتى كتابة مقالى هذا وبعد أكثر من اسبوع من تسلم منصبه، زميل عزيز لم يكن فى يوم ما مرتبطا بأى حزب، هو فقط شخصية إعلامية لها باع طويل فى العمل الإعلامى وسمعة طيبة. اتهم الصحفيون «حكومة الجبالى» بالتدخل السافر فى الإعلام، واتهم «آخرون» الإعلاميين بمعاداة أصيلة للتيارات الإسلامية ولحزب النهضة من منطلقات أيديولوجية بحتة.

 

خرجت مظاهرات للإعلاميين واجهتها مظاهرات تنادى بـ«تطهير» الإعلام. وترافقت مع هذا كله اتصالات مكثفة لرئيس هيئة الإعلام «المؤقتة» و«الحكومية» مع رئيس الدولة المنصف المرزوقى ومع رئيس الحكومة. وكما قال لى الزملاء أثناء وجودى فى تونس، كانت حجة رئيس الجمهورية أن القرارات ُاتخذت دون علمه، وكانت حجة رئاسة الحكومة «الله غالب» أو بمعنى آخر، القرارات صدرت وحتى وإن كان هناك خطأ قد ارتكب فإن «هيبة» الدولة لا تسمح بالتراجع.

 

انتهت المفاوضات والاحتجاجات رغم «عدم التراجع» عن التعيينات فى رئاسة المؤسسات إلى إلغاء تعيينات رؤساء التحرير. وتقرر اختيار رؤساء التحرير من خلال الإعلان عن الوظيفة وفتح باب الترشح لها على أسس محددة سلفا على أن تتولى الاختبار لجنة  من ممثلى النقابات وأصحاب الخبرة برئاسة هيئة الإعلام. كما قام الصحفيون فى بعض المؤسسات بإجراء انتخابات اختاروا فيها مباشرة رئيس التحرير. ومثلت هذه الخطوة حلا وسطا للحكومة «المؤقتة» ومطالب الصحفيين. وكسرت حاجزا مهما ترسخ فى الممارسة العربية   التى لا يتصور فيها أن تأتى قيادات إعلامية فى مؤسسات الدولة على هذا المستوى إلا بالتعيين المباشر.

 

 

«المؤقت» لا ينتج إعلاما مستقلا

 

إن كانت هذه هى الأزمة الأهم، فهى لم تكن الأولى. وهى تؤكد بوضوح  تجارب كثيرة سابقة من أن حكومات الثورات «المؤقتة» نادرا ما تنتج  ــ إن هى تركت إعلاما مستقلا. «فالمؤقت» هش بطبيعته وحلم التحول من «مؤقت» إلى «دائم» موجود. و«المؤقت» و«الانتقالى» كثيرا ما يأتيان فى ظل أزمة ثقة كبيرة وتربص. كما أن الوجهة لا تكون متبلورة بطبيعة المرحلة وغموض الأهداف وصراع القوى. والإعلام هو ترمومتر كل هذا.. ترمومتر مكشوف لكل الأعين.

 

واستقلالية الإعلام العمومى فى ظل «المؤقت» لها شروط واضحة :

 

ــ الشرط الأول: وجود هيكل قادر على ممارسة الضغط والتعبئة. وهو ما مثلته هيئة إصلاح الإعلام «المؤقتة» التى واجهت الحكومة رغم أنها تابعة رسميا لرئاسة الوزراء. لكن القائمين عليها اتخذوا خيار المواجهة بغض النظر عن النتائج. ولا تستطيع الهياكل المؤقتة ممارسة هذا الدور إلا فى إدراك أنها «مؤقتة» وأنه لا ضمانة لاستمرارها. وهو ما يعنى بوضوح التخلى عن أى مطامع شخصية، وتحديدا التطلع إلى التحول من «المؤقت» إلى «الدائم».

 

ــ الشرط الثانى: الابتعاد عن «تسييس» خطاب إصلاح الإعلام والإبقاء عليه خطابا مهنيا بحتا. التسييس ينزع القدرة على الإصلاح، وينزع القدرة على مواجهة الضغوط. وفى الوضع الانتقالى الضغوط تأتى من الجميع وليس فقط من جهات حكومية أو من قوى الثورة المضادة ولكن أيضا من الثوريين. والاستقلالية لا تعنى على الإطلاق كما يفهم البعض خطأ، الوقوف موقف المتفرج فى مرحلة حاسمة من تاريخ امة. لكن هذا موضوع طويل يضيق المجال عن الحديث عنه هنا.

 

ــ أما الشرط الثالث وهو الأهم فهو القدرة على التعبئة. وإلا تأتى مشاريع إصلاح الإعلام معلبة بوصفات جاهزة أعدت وراء الأبواب المغلقة دون حوار واسع يشارك فيه أهل المهنة والمجتمع. فمثل هذه المشاريع هى الضمانة الأكيدة لفشل اى إصلاح.

 

●●●

 

ليس من قبيل المصادفة أن الصدام الأول بين الحكومة المنتخبة والإعلام العمومى فى تونس كان حول صفتى «المؤقت» و«المؤقتة» اللتين يصر الصحفيون على استخدامهما عند الحديث عن رئيس الجمهورية وعن الحكومة. يرى الصحفيون فيهما إقرارا بالواقع وتراهما الجهات الحكومية  محاولة للإقلال من شأنها. فصفة المؤقت تقلق وقد يضيع معها حلم الإصلاح.

نجلاء العمري إعلامية مصرية
التعليقات