مُعاناة شبه يومية مع الأخبار. مُعاناة يمر بها كل مَن تأخذه الحماسة فيسعى إلى بناء مَنطق للأشياء، أو يحاول استنتاج ما قد يتحقق على الأرض وما هو مستحيل. فى هذه اللحظة لا تعنى المعرفة المُسبقة بأشخاص إمكانية توقع مواقفهم، فالخطوط العريضة التى لا يُختلَف عليها فى الأحوال العادية قد تلاشت مِن وجه الخريطة. لم يعُد التاريخ الشخصى سندا ولا مُعطى يمكن تقدير ردود الأفعال مِن خلاله؛ مَن عارض بالأمس أمرا، صار اليوم أشدَ المتحمسين إليه، مَن شجب فى الصباح وضعا لا يتفق وقناعاته المُعلنة، غدا فى المساء مُؤيدا له ومُحرضا عليه. مَن عاب على فئة مِن الناس فعلا عنيفا، لم يأنف الترحيب بأفعال أشد وطأة، ترتكبها فئة أخرى. تصرفات مُتناقضة ومُتضادة تفتقر إلى الاتساق وتجعل أصحابها بلا هوية.
يُعرف «الاتساق» فى المعاجم العربية على أنه الاجتماع والاستواء، ويمكن القول بأنه التناغم بين كل ما يصدر عن الشخص مِن قول وفعل، وكذلك بين مُجمَل ما ينتجه مِن أقوال ومُجمَل ما يقوم به مِن أفعال. كلما تتبعت تصريحات وكتابات بعض الساسة والمثقفين المصريين فى الآونة الأخيرة، اندهشت وقلت فى نفسى أن ثمة خطأ فى النقل عنهم، إذ يظهرون عبر الكلمات المنسوبة إليهم وكأنهم تبدلوا وصاروا أشخاصا جُددا لهم حزمة مُختلفة مِن المبادئ والاعتقادات. قِسم مِمَن انتموا يوما إلى جماعة اليسار، ودافعوا عن حقوق المضطهدين فى مُواجَهة بطشِ الدولة واستبدادها، ينكرون الآن على الناس أبسط شروط الآدمية دون منطق، ويضنون عليهم بحق الشكوى، ولا ينفكون يهدرون سنوات مِن الكفاح كانت لهم شفاعة أمام الفشل الذى أصاب الحِراك الثورى وعطله، وهم عنه يُسألون.
***
غالبا ما تتسم مواقف الساسة الأوروبيين وخطاباتهم بالاتساق، تحكمها شروط ومعايير واضحة، الخلل يستوجب الاعتذار، والتراجُع يستلزم إعلان حُجج ومبررات يمكن قبولها، وإلا أسقط صاحبه مِن نظرة الشعوب. رجال الدين أيضا لهم مِن الأمر نصيب. كلما سمعت كلمات البابا فرانسيس تُعلى مِن شأن الكرامة والعدالة والمساواة، ووجدت أفعاله تتسق مع خطابه وتعضده مرة بعد أخرى، رأيت أغلب المسئولين لدينا ومنهم رجال دين فى ثوب نقيض. على سبيل المثال، ثمة فارق شاسع يمكن ملاحظته ما بين رد فعل بابا الفاتيكان إزاء معتقلى جوانتانامو، ورد فعل المسئولين المصريين. قبل عامين طلب البابا فرانسيس فى صيغة رسمية إيجاد حَل إنسانى لقضية هؤلاء المعتقلين، ثم أتبع طلبه بإعلان مشاركته فى تسكينهم وإيوائهم، أما المسئولين المصريين فقد طلبوا مِن الولايات المتحدة أن تصمت عن حديث انتهاكات حقوق الإنسان فى مصر وإلا تحدثوا عن انتهاكاتها فى جوانتانامو، وفى الوقت ذاته راحوا يؤكدون أمام المحافل الدولية أن مصر فى طليعة الدول التى تحترم الحقوق الإنسانية، والتى توفر للمساجين والمحتجزين سُبُل الرفاهة ما استطاعت. ثمة أنظمة تنتهج ممارسات وحشية تجاه معارضيها، لكنها تتمتع بقدر مِن الاتساق مع الذات، لا تخفى ما تفعل، ولا تبتكر خطابا مُعاكسا للواقع؛ لا تؤكد كوريا أو الصين مثلا أن حقوق البشر تأتى على رأس أولوياتهما.
***
على مدى أسابيع توالى صدور فتاوى وتصريحات عن بعض رجال المؤسسات الدينية، بشأن أحداث يمكن وصفها إجمالا بأنها «سياسية». جاءت هذه التصريحات مُتضاربة فى جوهرها مرات، وفى مرات أخرى مُتجاوِزة ما يُفترض أن تحتفظ به مِن انتصار لقِيم الحق والعدل، ومِن التزام الحيدة تجاه الأطراف كلها. أقول يُفترض لأننا بوجه عام نصنع صورة مثالية لرجال الدين، نتوقع أن يكونوا الأزهد فى السُلطة، الأبعد عن أطماع الدنيا، الأكثر ورعا والأقوى عزيمة فى مواجهة العَسَف والجور.
على كل حال لا تفتأ هذه الصورة تتلاشى وتضمحل مع تراكم العثرات ومع ازدياد مؤشرات التناقض فى الخطاب. يصعُب على المرء أن يفهم مثلا؛ كيف تُحَرِم المؤسسة الدينية خروج الناس احتجاجا على ظُلم يشعرون به، بينما هى تصمت عن الظُلم ذاته. يصفُ رجالُ الدين التظاهرات المتوقعة فى الخامس والعشرين مِن يناير، بأنها حرام وأنها جريمة كبرى ويصورونها كما لو كانت فى حُكم الإفساد فى الأرض، لكن أحدهم لا يصدر بيانا ولا تصريحا ولا يعلو له صوتٌ إزاء ممارسات الترويع والإخفاء والتعذيب التى ترتكبها الأجهزة الأمنية، وكأنها ليست حراما ولا إفسادا.
تتواصل المؤسسة الدينية مع الجهاز الأمنى لأغراض شتى لكن أحدا مِن رجالها لا يستفسر عن تزايد أعداد المتوفين على أيدى الشرطة، ولا عن وجود أشخاص معتقلين دون محاكمات، ولا عن عشرات الصغار الذين يتعرضون لصنوف مِن القهر والإذلال، برغم إدراك رجال الدين القابعين فى موقع المسئولية أن ثمة غُبنا، وثمة ما لا يرضى عنه الدين؛ ذاك الذى لا يتفوهون إلا به، ولا يتكلمون إلا مِن خلال نصوصه.
يصعُب على المتابع المُحايد أن يفهم أيضا؛ كيف تقف المؤسسة الدينية مُنددة بأشخاص هاجموا بعض المبانى والمنشآت، وتُغمِض عينيها عن الفعل الأول الذى حرضهم على ممارسة العُنف. تتجاهل ببساطة إزهاق روح رجل أدين بالمعارضة السياسية، وكان نحره بالسيف سببا كافيا لإشعال الاحتجاجات. ربما إذا تجرَد رجال الدين مِن مسألة الانتماء المذهبى والطائفى، لأدركوا دون جَهد أن القتل لا يعادله أبدا تدميرٌ لجماد، مهما بلغ حَجم الخسائر. ربما تذكروا أيضا نصا أو آخر يعصم الدماء ويجعلها فى مرتبة أعلى مِن زوال أقدس الأمكنة.
***
لا شك أن غياب الاتساق ينال مِن المصداقية وينتقص مِن المكانة، وسواء كان مَنشأ التضارب والتناقض عِلة فى الفِكر أو غرضا فى النفس، وسواء كان المُصابُ فردا فى الجماعة السياسية أو الثقافية أو غيرها، فقد صارت بنا حاجة إلى صرف تلك الصور المثالية التى صنعناها لكثير مِن الرموز عن أذهاننا، والبحث عن آخرين أقل اعتلالا وأكثر صدقا واتساقا.