لماذا مدائن العقاد؟! (9) - رجائي عطية - بوابة الشروق
السبت 21 سبتمبر 2024 8:46 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لماذا مدائن العقاد؟! (9)

نشر فى : الأربعاء 22 يناير 2020 - 9:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 22 يناير 2020 - 9:55 م
طفق الأستاذ العقاد من خلال اللقاء الافتراضى الذى تخيله بين المعرى فى ضريحه، وبين المحتفلين بألفيته الراغبين فى تكريمه، يقرأ «سريرة» المعرى، فيرى أن الخصلة التى غيرت معيشته كلها أو غيرت مذهبه فى الحياة كله ــ هى خصلة «الوقار» وكراهة السخر والمهانة، أو هى خصلة «اللياقة» وفقًا لمسمياتنا فى العصر الحديث..

وأن الذى هيأ للمرجعيات التى ذكرها تشكيل هذه الخصلة أو الشيمة، أنها اجتمعت وتضافرت معًا، وتمثل لذلك بأن فقدان البصر لم يكن كفيلا وحده بتحقيق هذا «الوقار» أو «اللياقة» لدى بشار بن برد، فقد ولد ضريرًا، ولكنه كان أسبق للشهوات من المبصرين، أما ما اجتمع للمعرى فقد تضافر فى التزامه جانب الوقار واللياقة، واجتناب الدنيا والتزام العزلة والقناعة.

فى سريرة المعرى كان هناك ما يجمع بين «النواسية» نسبة إلى أبى نواس الحسن بن هانئ، و«الخيامية» نسبة إلى عمر الخيام.. فقد كان عند المعرى، فيما يرى العقاد، الشك فى أخلاق الناس وعقائدهم، فهو القائل: «ما فيهم بر ولا ناسك: إلاًّ إلى نفع له يجذب».. وكان عنده الرغبة فى الحياة والشغف بمتاع الدنيا، وله فى ذلك كلام كثير اختار العقاد بعضه كقوله: «والمرء ليس بزاهد فى غادة: ولكنه يترقب الإمكانا»، أو كقوله: «ولم أعرض عن اللذات إلاَّ: لأن خيارها عنى خنسنهْ (استخفاء)».. وكان عنده الشك فى عقبى النفس وما يستتبعه ذلك الشك من قلة المبالاة والمساواة بين المحامد والمثالب، ولعل أوجز كلامه فى هذا المعنى ما نقله العقاد عنه: «وقد زعموا الأفلاك يدركها البلى: فإنْ كان حقًّا فالنجاسة كالطهر».

ويرى العقاد أنه يرجح الظن بنزوع المعرى هذه النزعة بين «الخيامية» و«النواسية» أنه كان يعيش فى عصر فتنة واضطراب، وجزع على الأنفس والأعراض، وتلك عصور يشيع فيها الفساد وتندر فيها العصمة، ويكثر فيها اغتنام الفرص والتهافت على اللذات، ولا سيما على ملتقى الطريق بين حضارة الروم وحضارة العرب وحضارة الفرس، وكلها كانت فى ذلك الوقت آخذة فى الزوال أو الانحسار، وقل ما لديها من زواجر النفوس وعصمة الأخلاق ولوازم شرائع الآداب.

وهنا يتوقف العقاد ليبين لماذا فَرَّقَ أو مَيَّزَ بين «النواسية» و«الخيامية»، مع أن كلا من الرجلين ــ أبو نواس والخيام ــ كان معاقر كأس مقبلا على متعة.

فالخيام يشرب وينعم لأنه عالج مشكلات الوجود فاستعصى عليه حلها فقنع بالساعة التى هو فيها وعمد إلى الكأس يغرق فيها شكوكه وأسفه على بطلان الحياة وعاقبة الحياة!

أما أبونواس فلا شكوك عنده ولا مشكلات، وإنما هو شارب خمر لأنه يشتهيها ويواجه عقاب الآخرة فى سبيلها، فالآخرة عنده حقيقة مؤكدة مفروغ منها، وليست قضية فى طريق البحث أو الجلاء كما كانت فى مذهب عمر الخيام!
فماذا عن المعرى؟

المعرى قريب من أبى نواس فى الثقافة العربية، وقريب من الخيام فى التفكير والبحث عن أصول الأشياء.. ومع ذلك لم يكن كهذا أو ذاك، وإنما كان نمطًا وحده يأخذ بما هو قريب إليه.

ويتساءل العقاد: هل كان يمكن أن يكون أبوالعلاء على ما كان عليه، لو سلم من مرض الجدرى وعاش بصيرا بين أهل زمانه، وهل كان حتما عليه فى هذا الفرض أن يدرس الدراسة التى تشككه وتدفع به إلى البحث فى أصول الأشياء؟ ألم يكن من الجائز أن استغراقه فى الدراسة إنما كان نتيجة لفقد بصره وانصرافه عن الدراسات الأخرى التى ينشغل بها طلاب المناصب والمساعى الدنيوية؟ ألم يكن من الجائز أن يدرس ــ وهو طفل بصير ــ الدروس التى ترشحه للقضاء ــ مثلا ــ كما رشحت بعض أهله من قبل؟

وكما يطرح العقاد تساؤلات افتراضية، يورد إجابات افتراضية، ربما لو قنع الطفل البصير بهذه أو تلك من الدراسات، لعاش عيشة القضاة أو ذوى المناصب فى زمانه، ولكف عن التمادى فى النظر والبحث والدراسة.. عند ذلك كان سيجد الوظيفة والبصر، ولكنه لن يعيش بعد مماته إلاَّ فى ظلام التاريخ!

كان سوف يعيش جاهلا حقيقة نفسه، ويموت مجهولا بين عارفيه منذ أن قضى نحبه إلى أن يشاء الله..

مضى الأستاذ العقاد فى تخيلاته الافتراضية، يفترض أن المحتفلين بالألفية على ضريحه، قد أوفدوا إليه رسولا يدير معه حوارًا على نظام الأحاديث الصحفية فى أيامنا، يسأله فيه عن أشخاص، ومن منهم يروق له أو لا يروق، وماذا عساه يكون رأيه فيه.

وبعد تردد سأله رسول المحتفلين عن «قاضى المعرة»، وكيف يتمثله، ومضى يطنب فى بيان ما يراه من مآثر قاضى القضاة.
قال المعرى: «فتح الله عليك. فما أنا وذلك القاضى الذى وصفت؟ وما نصيبى من الحياة إن عاش هو وسمى نفسه أبا العلاء؟ هو رجل من أهل الصين ما سمعنا به فى الأولين!

«إنما أبوالعلاء أبوالعلاء حين يمعن فى أغوار ضميره فيلمح هناك هواجس قلبه وشكوك عقله، ومادة علمه واختباره وآثار نعمته وحرمانه، وما حصَّل أو ضيَّع من أحلامه وأشجانه، وغاية ما ينتهى من ظنه أو يقينه، فما أنا وقاضى قضاتك يا بنى؟ ذره وما اختاره يعيش كما اختار له أمراؤه وطلاب عدله وانصافه، فإن الصلة بينى وبينه كما قلت لك كالصلة بينى وبين ألوف ممن عاشوا أو يعيشون فى أرجاء الهند والصين».

وَجَمَ رسول المحتفلين لحظة، ثم قال بين الإقدام والاحجام: هل أسأل عن الشيخ الفارسى عمر الخيام؟!

هَشَّ له أبوالعلاء، وأجابه بالايجاب، ولكنه فوجئ بحكيم المعرة يهمس مقطبًا كأنه فى حديث نجوى: «أترانى أكون نسخة منقولة عن أحد كائنًا ما كان؟»

«كلا يا بنى! لقد كنت أختاره لو أننى خُيّرت فيه قبل ميلادى وميلاده، أما اليوم فما لى فى هذا الشبه من أرب: رضى الله عنه فهو أقرب من آثرت وأصعب من أبيت..

«لئنْ حظى بلذة التعاطى، لَمَا حظى بقوة الامتناع.. ولئنْ سكر بخمر الدعة، لَمَا سكر بخمر الأنفة.. ولئنْ جرَّبَ اتباع الدنيا خطوة واحدة، لما جرب الإعراض عنها خطوات.. له طريق ولى طريق، وربما التقينا فى بعض الطريق!».

ثم صاح الشيخ بتلميذه ورسول القوم إليه: «ما بالك يا بنى ترضى لى كل صورة ــ إلاَّ الصورة التى رضيتنى من أجلها؟

«ذلك خطؤكم القديم. فما من عرض إلاَّ وهو داخل فى صميم الجوهر، وما من شرفة فى أعلى البناء إلاَّ وللأساس منها عماد، وإن بصرى الذى افتقدته لجزء من تكوينى لا أنزعه إلاَّ انتزعت كلى معه فلم يبق لى ما أختار به ولا ما اختاره.. ولقد يكون من عوارض الحياة مال يذهب ومال يجىء، ودار تسكنها هنا ودار تسكنها هناك، ولكنك إذا كسبت المال وفيك طبع الفقير فكأنما وقع الدرهم فى يمين غير يمينك، وإذا سكنت الدار وخلفت فيها ذكريات شبابك فأنت ساكنها وإن تحولت منها إلى العدوة الأخرى، وإذا وجدت مرة فلن توجد إلاَّ على صورة واحدة فى هذه المرة.. وكل ما تختاره بعد ذلك فإنما هو من وحى تلك الصورة، ليس منه محيص ولا محيد.

كلا يا بنى.. لن يكون أبوالعلاء إلاَّ أبا العلاء!!

Email:rattia2@hotmail.com
www.ragai2009.com
التعليقات