في ثوانٍ مَعدودات أفضى الطبيبُ إلى زائرتِه بأن الوَضعَ سيء. أفصح دون تريُّث عن ظنه، وقطع بأن فردًا من العائلةِ؛ عزيزًا مُقربًا، يستحيل فراقُه أو التعامُل مع ألمه؛ قد دلفَ إلى دائرةِ مُعاناةٍ تنتهي بنهايته. طردَ الطبيبُ في كلماتٍ قليلة ما طافَ بالقلبِ من أمل، وأسكن مَحلَّه اليأسَ العميقَ، وصرف الزائرةَ وقد وطَّن الرعبَ دَاخلها مِن وطأةِ القادم، ودفعها إلى حافةِ الانهيار؛ فيما احتمالات أخرى أقلّ خطورةً وأعظم رحمةً؛ لا تزال قائمةً، ممكنة.
***
ينتقل خوفُ الخائف إلى المُحيطين ولو خفيَ السببُ، ويغزو القلقُ المكانَ ويفتك بمَن فيه وإن تظاهروا بالسكينة. فردٌ واحدٌ قد تملَّكه الذعر؛ قادر على إشاعة الظُلمةِ في الأجواء، ونقل عدواه إلى الجميع.
***
إذا وصلَ الخوفُ إلى المريض دقَ معاولَه ولو كانت العلَّةُ بسيطةً تافهة. تتدخل الحالُ النفسية في أداءِ الجهاز المناعيّ لوظيفته؛ فتدعِّمه وتقويه وتساعده ليتغلَّب على أي هجومٍ مُحتمَل إن كانت طيبةً، وإن ساءت ثبطته وأثنته عن المُقاومة؛ فترك الجسمَ فريسةً سائغةً للأعداء، وفي الذاكرةِ معارفٌ وأصدقاءٌ طردوا مَخاوفَهم وخيالاتهم وتوجساتهم، وناضلوا ضدَّ أمراضٍ عضالة، مُتحدين ما قدَّر لهم الأطباءُ من أيام أو أسابيع يقضونها على وجه البسيطة. بعضُهم تجاوز بمرحِه وإقبالِه على الحياة التوقُّعات، وعاش شهورًا سعيدة مرضية، والبعضُ امتدَّ به العمر مُخالفًا التقديرات كافة؛ فواصل المقاومةَ سنوات. المتفائلون وأصحاب النفوس الراضية قد لا يشعرون بوقع المرض قاسيًا؛ مثلما يعانيه المتشائمون وغير القادرين على الاستمتاع بشيء.
***
لا يتوقف الأمرُ عند الميكروبات؛ فيروسات وبكتيريا وطفيليات؛ إنما يمتد إلى الخلايا الخبيثة التي تتوالد بلا رَقيب، وأجسامِ المناعةِ التي توجِّه أسلحتَها بدلًا من العدو إلى الصديق، والعضلاتِ التي تئن وتتقلص غضبًا وتوترًا أو ضيقًا.
***
عرفت طبيبًا شابًا يعده أغلبُ زبائنه بمنزلةِ صديق؛ يهتم بكل صغيرةٍ وكبيرةٍ، يسأل عن تفاصيل تغيب في العادة عن الآخرين، ويودعها ذاكرتَهَ اليقظة. تفاجأت مع توطُّد المعرفة بأنه يبحث عن راحةِ زواره في أدقِّ التفاصيل؛ يستطلع آراءَهم في لونِ الحوائط ونوعِ الستائر ومكانِ المنضدة، ومدى الاحتياج لمُكيفات الهواء مُقابل الاكتفاء بالمروحة، بل وتغدو رائحةُ المُعطِّر الذي ينثره باستمرار أعضاء الطاقم الفنيّ العامل بالمكان؛ هي الأخرى محلَّ سؤال. الأسئلة ليست لملء الفراغ ولا للتسلية فقط، فالإجابات تتحول عنده إلى أفعال.
***
يخرج الطبيبُ بين الحين والآخر للترحيبِ بالمنتظرين في الصالة، فتخفف ابتسامته الودود مِن مَلل الانتظار، وتشعِر كلَّ فرد من الجالسين سادة وسيدات، متقدمين في العمر وصغار؛ بأنه وبأنها محلُّ اهتمامٍ خاص وترحيبٍ لا يفتر بمرور الوقت. جلساتُ العلاجِ الطبيعيّ قد تمتد؛ وقد يسأم المريضُ ويكفُّ عن المُتابعة قبل أن يجني الأثرَ المَنشود؛ لكن الوضع يختلف لا باختلاف مهارة المُعالج فقط؛ بل بما قرر أن ينتهجَ مع زبائنه من سلوك.
***
بعضُ الآلامِ منشأها في الأصل نفسيّ يحتاج إلى من يسبُر غوره، وبعضها لخللٍ عضويٍّ مكشوف يتطلَّب وصف العقار المناسب لا أكثر، فيما يجمع كثيرها بين العاملين سويًا؛ لا يزول بالدواء، ولا يتوارى بالتمرينات والتدريبات، ولا يبرأ بمداواةِ النفس وحدها؛ بل يستجيب إلى علاجٍ مُتكامل لا يغفل عن جانب ويطرقُ آخر.
***
على كل حال؛ بعض الأطباء يحققون نتائجَ واضحة قبل بدءِ العلاج المقرر؛ منهم من يجتذب المريض، ومَن يتركه عازمًا على عدم العودة. شعور المُتعب بأن ثمَّة من يقدر ألمَه، كفيلٌ برفع حاله المعنوية، وإزالة جزءٍ لا يُستهان به مِن الأوجاع، ولا شكَّ أن الأثرَ النفسيَّ الذي يتركه الطبيبُ على روح المريض؛ سلبًا وإيجابًا، أثر لا يُنكَر.