قاموس المَوتى - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:13 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قاموس المَوتى

نشر فى : الجمعة 22 مارس 2024 - 7:30 م | آخر تحديث : الجمعة 22 مارس 2024 - 7:30 م

تعالت الأبواقُ تحثُّ السيارةَ التي تمضي متأنية على الإسراع، ولما لم يَستجِب سائقُها؛ فتح آخر نافذتَه وزَعَق مُغتاظًا: أنت ميت وللا إيه؟ لم تكن الطريقُ مفتوحةً تغري بالانطلاق؛ لكن الأعصابَ المَشدودةَ المُتلهفة على العودة في فترة ما قبل المغرب دفعت كثيرين للمُشاركة في الصّياح، أما الرَّجل المُتمَهِل فلم يبدُ مُكترثًا بما يدور حولَه.
• • •
بعيدًا عن المعنى الحاسم للموت، نستخدم الكلمة ومشتقاتها استخدامات متنوعة وعديدة؛ فإذا وَصَفَ أحدهم رغبتَه الشديدةَ في تحقيقِ أمرٍ ما؛ قال: "هاموت عليه"، والمعنى أن رغبتَه ثقيلةُ الكفَّة، لا تعادلها ولا تصرفه عنها إلا كفَّةُ المَوت نفسه. إذا مات الواحد في جلدِه؛ فكناية عن خوفٍ شديد يحتويه ويشله عن الفِعل ويمنَعه السيطرةَ على عقلِه وأفكاره، وإذا مات من الضَّحك؛ فكناية عن شِدَّة القَهقهة وصُعوبة التقاطِ الأنفاسِ وعدم القُّدرة على الاحتشامِ والتزامِ الوَقار.
• • •
قدَّم الفنانان محمود عبد العزيز ويَحيى الفخراني فيلم "إعدام ميت" في النصفِ الثاني من الثمانينيَّات وأخرجه علي عبد الخالق، والفيلم قصَّة من قَصصِ الجاسوسيَّة المعتادة، أما العنوان فكاشفٌ للأحداث ودالٌ على مشاهد النهاية. المَيت مجازًا هنا؛ هو هذا الذي تمتَّع جسَده بعلاماتِ الحيويَّة، فيما يَبس ضميرُه وانهارت مبادئُه، وصار في عرف الآخرين مثله مثل جثَّة هامدة.
• • •
إذا بالغ المرءُ في توقعاتِه وحَسنت بالقادم ظنونُه، وأفصح بكون آماله قريبة توشك على التحقُّق؛ جاءه من يوقظه من جميل الأحلام ليذكّرَه بحقيقةِ وضعِه: مُت يا حمار. القَّصد من التعبير السَّاخر أن المُرادَ لم يَزل بعيدَ المنال، وأنه على الأغلب لن يَحدث، ولن يره الحالمُ في حياته. للقولةِ اللاذعةِ قصَّةٌ شهيرة؛ مؤداها أن رجلًا تطوَّع بتعليم حمارٍ خلال سنواتٍ عَشر، وأهداه الحاكمُ قصرًا حتى يُتم مُهمته أو يُقطَع رأسه، ولما كان الرجلُ حكيمًا عارفًا بأن الحمارَ لن يُحرز تقدمًا مهمًا فعل، فقد وضع لموقفِه حلولًا ثلاثة؛ أولها أن يموتَ الحاكمُ خلال الفترة المَنظورة، وثانيها أن يموتَ هو، وثالثها أن يموتَ الحمار، والحلُّ الأخير كان الأوفقَ بالطبع؛ ومنه انبثقت المَقولة.
• • •
تشير "موته ربنا" إلى غيابِ سببٍ واضح لانتهاء العُمر؛ فلا حادث سَير أو مَرض عضال أو خَلل وظيفيّ مَوروث، وغالبًا تصعد الروح إلى بارئِها دون مُقدّمات. رغم ما تحملُ هذه الميتةُ من راحةٍ لصاحبها؛ فإنها تكون مُفزعةً لمًن حولِه؛ فإن يتوقع المرءُ أمرًا يصبح مُستعدًا للتعامُل معه، وإن يُفاجأ به يغدو مَفجوعًا بأثره.
• • •
يُمكن أن يَموتَ الواحد "علي القِرش"، وأن يَحرِصَ على ما يَملِك حرصًا شديدًا؛ حتى يُصبح فعيلُه مثارَ انتقادٍ دائم ويَعدُّه مَن حَولُه بخيلًا، والحقُّ أن غالبَ الناس في هذه الآونةِ يتدرَّبون على الحِرصِ كمَسلكٍ وافدٍ، لم يَعد مِن غِنى عنه؛ فالأحوالُ باتت كربًا.
• • •
يحوي كتابُ المَوتى عند المِصريين القدماء عددًا من التعاليمِ والإرشاداتِ التي تقود المَيتَ في رحلته للآخرة، وتساعده عند مُثوله أمامَ القُضاة؛ حيث يُقرُّ أمامهم بأنه لم يَقتلْ ولم يَسرِقْ ولم يَكذِبْ، ولم يتسبَّبْ في إيذاءِ إنسان، ولم ينصر العملَ السييء على العملِ الطَّيب، كما لم يتواطأ مع المُعتدي؛ وغيرها من نصُوصٍ بَسيطةٍ في ظاهرٍها، عميقةً في معانيها، ولإن وَجَدت طريقَها للتطبيقِ في يَومِنا هذا؛ لكانت عنوانًا للمدينةِ الفاضلة.
• • •
قد يَموت الواحد في هَوى الحَبيب، وقد يموت في أكلة بعينها أو في فاكهة هي رمز لما يُشتَهى؛ ولا تسلو الذاكرة تلك الأغنية التي اشتهرت منذ أعوام طويلة ونالت حظَّها من الهجوم والقدح: "أنا كنت باحب المشمش دلوقت باموت في المانجا"، كذلك تذكر عبارة القدير يوسف وهبي في فيلم إشاعة حب: "أموت يا هوه" حال اطلاعه على صورة هند رستم بين الصور التي جمعها ابن أخيه.
• • •
المَوتُ علينا حقّ؛ تعبير يُلقى في إطار المُواساةِ وتَخفيفِ الألمِ الناتجِ عن الفراقِ، فإذا اعترفَ المرءُ بأن فقدانَ عزيزٍ هو حقٌّ لا يُمكن الهروبُ منه، وأمرٌ ثابتٌ مٌقترِنٌ بالوجود، لا تتأتى المُساوَمةُ عليه؛ لم يكن باليدّ شيءٌ ولم يكُن الحزنُ بمُغيّر للواقع.
• • •
يُعرِّف مُعجمُ المعاني الجامع المَوتَ الأحمرَ بأنه زوال الحياة قتلًا والشاهد أن الحَمَارَ هو لونُ الدَّم، وعلى الجانب الآخر يُكنَى وباءُ الطاعون بالمَوتِ الأسود؛ لما يتركه من آثارٍ ماديَّة دامغةٍ على جسد ضحاياه، أما المَوتُ الأغبرَ الذي وصفه العرب قديمًا؛ فهو انتهاءُ الحياة تحت وطأة الجُّوع، وغالب القصد ما يصحبُ الاحتضار من غبرةٍ تلوِّن مُحيط من يعانيه؛ والحقُّ أن الغبرةَ في يومِنا هذا تغشى أعيُنَ من يرَون أبناء فلسطين جوعى؛ فلا يُحرِّكون من أجلِهم ساكنًا.
• • •
يقول أحمد مطر في إحدى لافتاته: "مات الفتى .. أي فتى؟ .. هذا الذي كان يعيشُ صامتًا .. وكان يدعو صمتَه أن يصمتَ .. وكان صَمتُ صمتِه يَصمتُ صمتًا خافتًا.. مات متى .. اليوم؟ .. لا؛ هذا الفتى عاشَ ومات ميتًا". الموت هنا كناية عن خنوع مكين يجعل من صاحبه عدمًا، واللافتة في ظني من أعظم ما كتبَ الشاعر.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات