المجال العام هو مساحة الحركة، والنقاش، والتفاعل بين الأفراد فى أى مجتمع. إذا كان المجتمع حيا، يكون المجال العام بالضرورة نشيطا، متفاعلا، والعكس صحيح. اللافت أنه حين تغيب القضايا الأساسية فى النقاش، تحل محلها المساجلات الاستقطابية التى تغطى على الخواء الثقافى القائم. من هنا يمكن أن نفهم المعارك التى تجتاح الإعلام، والتى تزيد المجتمع انقساما، وبلبلة، واستقطابا، ولا تفيد أحدا سواء تعلقت بالخلافات بين أهل الدين، باحثيه وعلمائه، أو حكايات أهل الفن، وقضاياهم، ومشاحنات أهل السياسة الذين لا يشاركون فى حوارات سياسية جادة، بقدر ما يتراشقون حول مصالح خاصة. وفى المجال العام الذى تختفى منه الجدية نرى أشكالا وصورا من الأعمال التى يرى أصحابها أنها ضرب من البطولة والوطنية فى حين أنها تشكل علامات انكسار واضحة مثل حرق بعض الكتب فى فناء مدرسة.
لن يتقدم المجتمع دون تغيير ثقافى حقيقى، ليس على شاكلة مساجلات اليوم حول الحجاب والسنة والسلف والصحابة، ولكن بالتأكيد من خلال انتقال المواطن المصرى إلى تحديث ثقافى حقيقى من خلال فتح نوافذ الإبداع، والتفكير النقدى، والعقلانية، وتقديم الخدمات الثقافية خارج المدن الكبرى تحقيقا للعدالة الثقافية، وكسر احتكار فئة بعينها لما يطلق عليه الإبداع، واتاحة الفرصة أمام أجيال شابة للمساهمة فى التغيير الثقافى.
يتطلب تحديث الثقافة تطوير وبناء مؤسسات ثقافية، فاعلة وقادرة على فرض ثقافة التحديث، شكلا وموضوعا، وحماية العقل المصرى مما يتعرض له من تجريف، ومصادرة تحرمه من ملكة التفكير النقدى الإبداعى.
• مؤسسات فاعلة، تتوافر فيها الأمكانات، والأهداف الواضحة.
• القواعد الإدارية التى تنهض على القيم الأساسية مثل النظام والمرونة، الكفاءة والإنجاز، والالتزام بالمعايير الأخلاقية، ووضع نظام الحوافز والتقييم الملائم، والتشجيع على الإبداع والابتكار.
• القدرات البشرية من قيادات إدارية ديناميكية، لا تخضع لقواعد الأقدمية والتراتب الوظيفى، تنطلق فى عملها من إيمانها بدورها فى التحديث الثقافى، وتقديم المنتجات الثقافية لجمهور المستهلكين بالجودة المناسبة، وبالكيفية الملائمة.
هذه هى العناصر الأساسية التى تشكل نموذج العمل الثقافى الذى يؤدى إلى تغيير المجتمعات: مؤسسات فاعلة، وقواعد إدارية شفافة وحديثة، وقيادات وكوادر بشرية تؤمن بدورها، وتسعى إلى تحقيق أهداف التحديث الثقافى الموضوعة أمامها، وعملية تقييم مستمرة للمنتجات الثقافية، من حيث الكم والكيف، وهو ما يحافظ على لياقة المؤسسات الثقافية، ويجعل منها أبنية مجتمعية قادرة على قيادة التحديث الثقافى فى المجتمع.
لم أر حتى الآن مشروعا للتحديث الثقافى جادا، والمسألة ليست أفكارا على ورق، أو استراتيجيات توضع فى النهاية فى الأدراج أو تحال إلى كوادر بشرية وظيفية لا تؤمن بدورها الثقافى، ولكن المطلوب هو رؤية أوسع للتغيير الثقافى، تكون أطرافها الثقافة والإعلام والتعليم، وهو عبء يتطلب مشاركة أطراف كثيرة فى العمل.