توقفت ساعتى عن العمل أثناء رحلة مكتظة بالاجتماعات واللقاءات والأحداث. اضطربت وتساءلت عن فعاليتى فى غياب سيف الوقت فوق رأسى، إذ إننى أنظم جدولى بشكل لا يسمح بأى تغيير، حتى أننى حين أتردد أحيانا فى التخفيف منه تحسبا لحالة طارئة قد تظهر وتضطرنى إلى بعض المرونة، ثم أعود فأتذكر أننى لا أعرف كيف أخطط خارج الأطر الصارمة والمواعيد المحددة.
لذا فحين توقفت ساعتى عن العمل فى أسبوع كنت قد خططته بعناية ودقة فائقتين، أحسست أننى قد أفقد السيطرة واضطربت.
***
لكنى سرعان ما اكتشفت أن الوقت يمضى برتابة والأمور تتسلسل بحسب نظام أكبر منى، وأن بإمكانى ببساطة أن أسأل من حولى عن الوقت وأن أقدر، ولو بشكل تقريبى مكانى على الجدول. اكتشفت أن ثمة إثارة فى التحرك ضمن بعض الانفلات، وأن بإمكان العقل أن يتكيف بسرعة مع بعض من عدم الوضوح فيضطر أن يركز على الأولويات. رأيت أن، فى غياب السيف، ليس من الضرورة أن تفلت منى الأمور إنما قد أسمح ببعض المساحة أثناء اليوم.
***
هذه ليست دعوة للفوضى ولا لعدم احترام المواعيد، إذ لا يزعجنى شىء بقدر غضبى من مواعيد تنسف دون سبب مقنع، وما أشطرنا أحيانا فى استخدام حجج مبهمة كحجة زحمة السير فى القاهرة، وكأن الزحمة ولدت للتو ففاجأتنا. لكن ما تعلمته يوم فقدت ساعتى أن ثمة تغييرا قد يطرأ على التعامل من مع حولى حين يخف الضغط، ثمة انسيابية فى الحديث يتيحه ابتعاد السيف عن رأسى.
***
أتخيل الوقت كما وصفه الشاعر البريطانى رالف هودجسن حين ناشده قائلا «أيها الوقت، يا رجل غجرى، لم لا تبقى، وتفرد قافلتك ليوم واحد فقط»؟. أتخيل قافلة يقود كل عربة منها شخص أثر فى حياتى، أمى وجدتى وصديقات وأشخاص تركوا آثارا على، يجلس كل منهم خلف عجلة القيادة بانتظار تعليمات على هيئة دقات ساعة كبيرة تقود العربة الأولى. هذه ساعتى، الرجل الغجرى الذى يناشده الشاعر التوقف فلا يسمعه ولا يرد. تسير القافلة ومع كل محطة تلحق عربة جديدة بالمجموعة والجميع يسير خلف الساعة الكبيرة فى أول الطابور.
***
أنظر من حيث أقف فأرانى فى كل العربات، كيف حدث ذلك؟ يظهر وجهى خلف شبابيك عديدة فى نفس اللحظة لكنى حين أدقق النظر أرى بعض الاختلافات على وجهى. أنا فى مرحلة مختلفة من عمرى فى كل عربة، ألبس فى معصمى ساعة لا تتغير من عربة إلى أخرى. أتعرف عليها فهى الساعة التى توقفت عن العمل أثناء رحلتى الأخيرة. فى كل مرة أنظر إلى ساعة يدى أقفز إلى العربة التالية وأمضى فيها بعض الوقت قبل أن أنظر إلى معصمى من جديد فأقفز.
***
تظهر وجوه خلف الشبابيك أعرف بعضها وأحاول التعرف على بعضها الآخر. هم بلا شك أشخاص أثروا على بعض الأحداث فى حياتى لكنى لا أتذكرهم فأنظر من جديد، فى محاولة لقراءة حديث يدور بينى وبينهم لكنى لا أسمعه. هو حديث بين نسخة عنى موجودة داخل العربة وبينهم، وأنا كما أنا اليوم أقف على مسافة من العربة أحاول أن أتذكر ما حدث حينها.
***
هل سيتوقف الرجل الغجرى فتتوقف معه القافلة لتسمح لى بفتح أبواب الحافلات كلها؟ هل بإمكانى أن أعيد ترتيب القافلة بحيث أعيد أيضا تسلسل الأحداث؟ يقال إن قراءة الأحداث بأثر رجعى، أى إمكانية أن نعيد النظر فى مواقف بسبب إلمامنا بأمور لم نكن نعرفها من قبل، يقال إن لذلك وقعا قاسيا على حكمنا، فمن منا لم يندم على مواقف أخذها وبدت له حكيمة وقت اتخاذها، ثم عاد فغير رأيه بعد أن اتضحت الرؤية فظهرت جوانب لم تكن ضمن المعطيات الواضحة؟
***
لن أستطيع تغيير تسلسل القافلة ولا وضع حافلة مكان أخرى للأسف، ولن يتوقف الرجل الغجرى بقافلته حتى لساعات. كل ما منحنى إياه الغجرى هو نظرة سريعة على حافلات حياتى، وتأكيدا على أن القافلة تسير وأنا أقفز بين العربات وفى معصمى ساعة. حين أصل إلى العربة الأولى، تلك التى تقود المجموعة، أرمى بالقائد من النافذة، فالقائد هو ساعة ضخمة تثير دقاتها الذعر فى نفسى ونفس الركاب جميعا. أمسك بالمقود وأحاول أن أبطئ من سيرنا قليلا. أنا فهمت أننى لست برجل غجرى سوف يوقف المسار، إنما قد أستطيع أن أهدئ من الرحلة فأعطى للركاب ولنفسى فرصة أن نتبادل بعض القصص. قد تستطيع صديقة أن تأتى من حافلتها إلى حافلتى لتعطينى فنجانا من القهوة أشربه على إيقاع عربتى الهادئ.
***
يوم توقفت ساعتى عن العمل أظن أننى فقدت الوقت، أو بالأحرى فقد سيفه فجلست فى كرسى أنظر إلى تغيير المناظر من شباك حافلتى. ها قد تبدلت الألوان إذ اقترب موعد الغروب. ثم أسدل الليل سواده فهدأ الكون. لم يتغير ترتيب المشاهد إنما رأيت تواليها بشكل أوضح. هذا ما أراده الغجرى حين سمح لى بأن أتولى قيادة قافلة الوقت.