في أحد شوارع الحَيّ القديم، رجلٌ في أواسطِ العُمر، يحمل صندوقًا زجاجيًا مُميزًا، يقف في بقعةٍ مُحددة اختارها لنفسِه. يأتي في أيام العَمَل وفي العَطلةِ الأسبوعيّة، لا يرتبط بمواعيدِ دراسةٍ أو إجازةٍ، ولا يُبارح مكانَه إلا فيما نَدر. يبدو أن الرَّجُلَ قد غادر مَوطِنَه الأصليّ وتركَ الشواطئ التي اعتاد التجوال فيها بالسّروالِ القصير والقميص الأبيض ذي الأكمام المثنيةِ والقبعة القماشية، وأتى إلى القاهرة؛ حاملًا في جوفِه النداء ذاته: "فريسكا .. فريسكا". لا يُغَيّر الرَّجُل زيَّه، والمُتغَيّر الوحيد في حالِه؛ أنه كفَّ عن التجوال، واستقر في مكانِه ثابتًا، يتقدَّم خطوةً أو اثنتين؛ محاولًا إغراءَ العابرين، ثم يعود أدراجَه مِن جديد.
***
ألِفت رؤيتَه في ذهابي وإيابي، لكني لم أُفكّر قطَ في الشراءِ منه، لم يُغريني صندوقُه ولو مرةً واحدة. انتزاع الفريسكا مِن مَوطِنها الأصليّ ومُستقرّها؛ يُفقدني اشتهاءَها، ويُفقِدها في مخيلتي حلاوتَها وطابعَها المألوف. الفريسكا كما اعتدتها؛ مَخلوطة بمذاقِ البَحر وهوائِه ورائحتِه، أما هذه؛ فمذاقُ الأتربةِ والعوادمِ قد طافَ بها ولا بُد، وطوَّقتها روائحٌ مَكتومةٌ حبيسة.
***
لم أفهم مع وجودِه المُفاجئ والذي باتَ بمرورِ الأشهُر دائمًا لا عابرًا؛ ما السبب الذي أتى به؟ والمؤكد أن غَلقَ الشواطئ مؤخرًا ليس هو ما دفعه لمُغادرتها والبحث عن رزقِه في مكانٍ آخر، فهو هنا؛ كامنٌ في بقعتِه منذ عام أو ما يزيد، لا يعرف أحدٌ ما جاء به، ولا يتبرع هو بسردٍ حكايتِه.
***
لم أرَ ولو في مُصادفة وحيدة شخصًا يتريَّث ليبتاعَ مِنه قطعةَ فريسكا أو حتى ليسأل عن ثمنِها، مع ذلك لا يتخلف البائع بصندوقه التقليديّ الذي يلوح ثقيلًا مُرهِقًا عن المَجيء كلّ يوم؛ يحرص على قُبَّعته التي تحميه مِن لظى الشَّمسِ القاهريَّة، ويقفُ فوقَ المطَبّ الاصطناعيّ لا يبارحه إلا مع الغروب.
***
يُقال إن أصل الفريسكا كَلمِة إيطالية، وإن الحلوى بالتالي أوروبية المَنشأ، ويقال أيضًا؛ بل هي إرثٌ عثمانيٌّ، والثابت بغَضّ النظرِ عن هذا وذاك؛ أنها صارت جُزءًا أصيلًا مِن تقاليدِ الشواطئ المِصريَّة والاسكندرية على وجهِ التحديد؛ لا تتأتى مُتعةُ المُصطافين دونها ولا تكتمل طقوسُهم في غيابِها، ينتظر الأطفال نداء بائعِها بفارغ صبرٍ؛ ليطالبوا بحقهم في قطعة أو أكثر، ولا يخالفهم الكبار في حبها؛ سواءً حَمَلَت قطعَ المكسرات والسوداني، أو خَلَت مِن الحَشو مُكتفيةً بالعسَل.
***
منذ أعوام خَلَت؛ قامت الفنانة آثار الحكيم ببطولة مُسلسَل يحمِل العنوان "فريسكا"، ولم يكُن المُسمَّى رمزيًا أو مَجازيًا؛ بل لعبت فيه البطلةُ دَوْرَ بائعةِ فريسكا حقيقية تدور ببضاعتِها من شاطئ إلى آخر، وتترقَّى في عملِها إلى أن تُصبِح ثَريَّة يُشار إليها بالبنان. لقيَ المُسلسلُ قبولًا عند المشاهدين رغم أن الواقعَ قد لا يَجود علينا أبدًا بوقائعٍ شبيهة؛ فندرةٌ إن وُجِدَت مِن النِساء يُمارِسن بيع الفريسكا، ونُدرةٌ إن وُجِدَت مِن البائعين تُحرِز تقدُّمًا اقتصاديًا لافتًا أو حتى مُرضيًا؛ كافلًا لحياة أقل شقاءً.
***
تزدحم شواطئ الاسكندرية في المواسم السنوية المعروفة، وتكتظ مع قدوم العيد بالوافدين مِن شتّى المُحافظات؛ بعضهم يأتي زائرًا ليومٍ واحد، لا يملِك فائضًا مِن المال لمَبيت، والبعض الآخر يبيت على الشاطئ، وهناك مَن يستأجر مكانًا لليلة أو اثنتين. يجتمع أغلبُ هؤلاء على استمتاع قصير الأجل، مُقتصدين في التكاليف؛ لكنهم لا يتوانون عن التلذُّذ بقطعةِ فريسكا صغيرة؛ مهما حملوا معهم مِن مأكولات ومَشاريب بيتية الصُّنع.
***
يأتي هذا العيد والشواطئُ خاوية على عروشِها، والرمالُ التي تختفي في العادة تحت آلاف الشماسي المَفرودة والمتاع المُتجاور والأجساد المتلاصقة؛ ستظهر واضحة كاشفة، لا أثر عليها لقَدمٍ ولا بناء لطفلٍ، أما بائعو الفريسكا؛ فأغلب الظنّ سيقفون مثل صاحبنا؛ على مطَبّ اصطناعيّ كئيب، تُهدئ عنده العَربات مُرغمةً مِن سرعتِها؛ لعلهم يحظون بزبون مُشتاق.