على مدار أيام احتلت امتحانات الثانوية العامة كعادتها، مساحة واسعة من متابعات الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، وإن كانت أقل قليلا مما سبق، وقد أضيفت إلى مشاكلها هذه المرة مشكلة جديدة، هى وجود حالات غش تستخدم وسائل التكنولوجيا المتقدمة، فعن طريق تليفون البلاك بيرى الذى يتيح لصاحبه التواصل مع الآخرين عبر الإنترنت بسهولة ويسر، قام بعض الطلبة بإرسال الأسئلة وتلقى الإجابات النموذجية عليها أثناء أداء الامتحان، بخلاف تلك المشكلة لم يكن هناك من جديد، توالت ردود الأفعال التى طالما تكررت عاما بعد عام، دون كلل أو ملل: كل فتاة أخفقت تحتضنها أمها وتبكيان معا أمام المدرسة، وكل فتى مُنهار يستند على كتف أبيه ويكاد يغشى عليه من هول الصدمة، وقد حاول أحد الطلاب الانتحار، ومزق آخر ورقة إجابته، بينما اصطحبها ثالث معه إلى البيت. اقتحم بعض الأهالى اللجان واستخدم آخرون مكبرات الصوت لإذاعة الإجابات، فى الوقت الذى أكد فيه مسئولو وزارة التربية والتعليم السيطرة التامة على الوضع وضبط المخالفين، ومراعاة توزيع الدرجات على الأسئلة الصعبة عند التصحيح، حال ظهور نتائج العينات العشوائية.
●●●
إلى جانب وسائل الغش المستحدثة، ليس هناك من جديد فى الثانوية العامة، إلا صمودها الفائق للتوقعات، وبقاؤها محط الأنظار، حتى لتكاد تصبح أحد الأشياء القليلة النادرة المتسمة بالثبات النسبى فى وقتنا الحالى، رغم كل ما يحيط بها من ظروف وأحداث سياسية ساخنة. لا أخفى أننى قد توقعت اختلافا كبيرا فى حالة الثانوية العامة هذه المرة، وأن توقعى صادفه الفشل، حذرت من أنها سوف تمر مرورا هادئا دون صخب أو عويل، وأن التحدى الذى تولد فى النفوس وخاصة لدى الشباب، سوف يتخطاها ويتجاوز ضغوطها، حذرت أن روح الجماعة سوف تغلب، وسوف يظهر من يقول بأننا جميعا نواجه الامتحان ذاته سواء كان صعبا أو هينا، وأننا قد واجهنا من قبل القنابل والرصاص، وتعاملنا مع الغازات وقهرناها، ولم نعد نخاف من شىء، مادمنا سويا ومادمنا يدا واحدة.
جاءت الثانوية العامة بزوابعها، لتكشف أن التغير الذى أصابنا لا يزال بعد ضئيلا، وأن الروح الجماعية الجديدة التى تولدت لدينا ما زالت هشة، وأننا للآن نرى غالبية مشاكلنا مِن منظور شخصى شديد الضيق، ورغم أن الأفق الذى تخلق مع قيام الثورة بدا رحبا واسعا، لكن توالى الإحباطات، والانتقال الإجبارى من أهداف عامة كبرى إلى أهداف أصغر، أدخل كل فرد إلى حيزه الشخصى مرة أخرى، وتوارت فكرة المواجهة الجماعية إلى حد كبير.
●●●
عملية الغش الحديثة رآها المعنيون بالأمر كل من زاوية مختلفة، هناك طالبات استقبلنها كاعتداء سافر على حقوقهن، وقررن تدشين حملة مضادة تستلهم أهداف الثورة، وترفع راية القضاء على الفساد؛ وهناك من خبراء التربية من رأوا أن التطور المضطرد لعملية الغش يمثل رسالة احتجاجية من الطلبة، تدين تدهور العملية التعليمية، وتفضح ارتفاع المجاميع الجنونى الذى لا يعكس مهارة علمية ولا تفوقا. على الجانب الآخر، تناول البعض الغش التكنولوجى باعتباره فعلا طبقيا بامتياز، يتيح التفوق للأغنياء فقط، وقد علقت إحدى مذيعات الراديو على الأمر قائلة إنها سوف تستدين لتبتاع لابنها بلاك بيرى، حتى لا يكون الفشل والدرجات المتدنية من نصيب الفقراء أو الأقل ثروة وحدهم، وربما تكون وجهة نظرها جديرة بالاعتبار، خاصة إذا ما نظرنا للإحصائيات التى تؤكد أن نسبة المتفوقين من الطلاب الفقراء فى الثانوية العامة لا تتجاوز 0.5%، وعند الانتقال إلى الجامعات لا تتجاوز نسبة تفوقهم أيضا 4.3%.
شهدت تونس أزمة مشابهة لأزمة الثانوية العامة المصرية فى التوقيت نفسه تقريبا، حيث تم إلغاء وتأجيل بعض الامتحانات بعد أن اكتشف المسئولون تسربها، وعن اليابان ذاتها تناقلت وسائل الإعلام منذ فترة قصيرة، خبرا بطلته معلمة، أجبرت طالباتها على أداء الامتحان دون ملابس، كى لا تتَمكن إحداهن من إخفاء أى سماعات أو أدوات حديثة، تساعد على الغش.
تبدو السيطرة على عمليات الغش فى منتهى الصعوبة، ليس فيما يتعلق بالثانوية العامة فقط، بل فيما يتعداها من مراتب ودرجات، نعرف أن البعض يغشون رسائل كاملة فى مرحلة الدراسات العليا، وأن ثمة مقاطع وفقرات يتم اقتباسها نصا من كتب قديمة دون ذكر مؤلفها، وأن أبحاثا سابقة تنشر بعد تحديث تواريخها باعتبارها جديدة، أحيانا مايصبح اكتشاف مثل هذه الخدع عسيرا، خاصة حينما يرتكبها أصحاب النفوذ والشهرة، الذين يمتلكون أدوات وأساليب تخول لهم التحايل والإفلات من المساءلة، وكثيرا ما لا يجرؤ المحيطون بهم على الشك فى إنتاجهم، وإن انتابهم الشك فإنهم يفضلون الاحتفاظ به فى صورة غير معلنة.
قد يغش الناس رغبة فى الاستسهال وطمعا فى الأفضل، وأحيانا ما يغشون بسبب عدم الثقة فى النفس، أو لأنهم خائفون من تحمل مسئولية عملهم، وفى أوقات كثيرة يصبح الغش عادة، وأظن أن الغش فى المراحل الدراسية المتنوعة لدى طلابنا أمر منتشر وليس استثناء، وأنه وسيلة قد ينتهجها الجميع؛ المتفوقون والأقل تفوقا، ربما لأن الامتحان صار فخا لابد من تجاوزه بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، ولأن الأساليب التعليمية صارت أضحوكة لا تعتمد إلا على التلقين بدلا من التفكير والابتكار.
●●●
ما زلت أذكر معلمة الرياضيات، التى كانت تدخل إلى الفصل ونحن بعد فى المرحلة الابتدائية، وتطلب إغلاق الكتب والكراسات، ثم تبدأ فى سرد ثلاث مسائل رياضية غريبة، وكان علينا أن نستمع وننصت فى تركيز شديد، وأن نحتفظ بالأعداد فى رؤوسنا، ونتخيل طريقة حل المسائل التى لم نصادف مثلها من قبل، ثم نجرى بعض العمليات الحسابية دون ورق وأقلام أو حواسب آلية، ونستخلص فى نهاية سردها حلا، وتسمح لنا المعلمة بكتابته رقما وحيدا مجردا من أى شىء ثم تمر علينا للتقييم.. دقائق خمس من الزخم العقلى، كانت تنتهى إما بإعلان الهزيمة أو الانتصار، بعضنا أحبها والبعض حاول الهروب منها، لكننى أظننا لم ندرك أهميتها إلا بعد سنوات طوال.