يشغل مفهوم السعادة علماء النفس والاجتماع بشكل كبير مثلما شغل مفهوم الحقيقة قديما أغلب الفلاسفة والحكماء، يقال إن السعادة نسبية وإن ما يجعل شخصا ما سعيدا قد لا يفعل الشىء نفسه بآخرين. يضع الناس أمامهم طيلة الوقت نماذج وأمثلة متنوعة؛ يرون فيها تجسيدا لمفهوم السعادة التى يتمنون الوصول إليها، والعجيب إن ذلك المفهوم يصعب الإمساك به بدقة بين الكلمات، لكن أحدا لا يخطئ الإحساس به.
يضع الباحثون بدورهم معايير، يظنون أنها صالحة لقياس مقدار سعادة الناس ورضائهم عن الحياة، ويأخذون فى تطبيقها ودراسة النتائج التى تسفر عنها، مع ذلك قَلَّ أن تكون تلك النتائج صادقة.
أما النماذج التى ينشغل بها الناس فلا يبدو إنها تتمتع بالثبات والديمومة حتى الخيالى منها أو المفترض؛ ظلت العروسة الشهيرة باربى مثالا للسعادة والجمال فى نظر الفتيات الصغيرات والمراهقات لفترة طويلة، صمدت على عرشها ما يقرب من نصف قرن لكنها لم تلبث أن سقطت مؤخرا وظهر من يشكك فى ابتسامتها ومن يراها نموذجا زائفا للمثالية والكمال، ومن يتظاهر ضدها باعتبارها رمزا للتمييز ضد النساء ومن يتهمها بنشر هوس النحافة والهزال بين معجباتها.
حاولت آلاف الشابات من مختلف البلدان الحصول على سعادتهن الخاصة؛ بتقليد شكل باربى ووزنها وقوامها واتبعن نظما غذائية صارمة لكن فقدان عشرات الكيلو جرامات فى سبيل تجسيد الحلم السعيد أدى ببعضهن إلى الوفاة. أصبحت باربى فى نظر الكثيرين والكثيرات نموذجا للتعاسة ليس إلا.
●●●
كان حلم السعادة بالنسبة إلى ملايين المهاجرين التعساء على وجه البسيطة يتمثل فى الارتحال شمالا إلى إحدى الدول الإسكندنافية والعيش على أراضيها حيث الناس يموتون وينتحرون ــ كما كان شائعا ــ من فرط الرفاهية والوفرة والتدليل، لكن هولاء المهاجرين الذين حققوا حلمهم من خلال سياسات هجرة اصطبغت بالمرونة، واستقروا فى قلب أحلامهم بالسويد مُشَكَّلين 15 % من سكانها راحوا ينتفضون على مدى الأشهر الماضية بؤسا وإحباطا بسبب أزمات التهميش والفقر والبطالة التى يعانونها فى قلب العاصمة. لم تعد المدينة ــ الفاضلة وهما ــ محل سعادة وهناء.
●●●
كثير من العلامات والإيماءات التى قد توحى ظاهريا بالسعادة، يَتَكَشَّفُ زيفها عن قرب؛ كان الفنان الكوميدى إسماعيل ياسين ذا ضحكة دائمة، لكن من عرفوا حياته واختلطوا به، قالوا إنه عاش ومات محزونا خائب الرجاء، وعلى شاكلته آخرون، مشاهير ومغمورون، يبدون على قمة السعادة لمن يرى قشرتهم الخارجية بينما يعانون فى أحشائهم ألما وشقاء عميقين.
أما عن معايير السعادة التى وضعتها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية فتشمل جوانب متعددة منها؛ مستوى الدخل والصحة والأمان والسكن، فهل تعكس تلك المعايير حقا حال السعادة ومقدارها؟ ربما يجيب الاقتصاديون فى ثقة تامة بنعم لكن علماء النفس سوف يدفعون أغلب الظن بلا. يدرك المشتغلون بالنفس وخباياها أهمية الاحتياجات الأساسية التى وضعها ماسلو فى هرمه الشهير، ويعرفون إنها تمثل عصبا رئيسا فى حياة أى إنسان لكنهم كذلك متيقنين من أن وجودها لا يعنى بالضرورة إنه سعيد.
●●●
ارتسمت ابتسامة واسعة منبعها القلب لا العضلات، على وجوه الناس جميعا صبيحة الثانى عشر من فبراير منذ عامين ونصف العالم تقريبا. ابتسامة لم تُر فى ملامح السائرين فى الشوارع المصرية لعقود طويلة ميزها الغم. لم تكن مشكلات المبتسمين الاقتصادية والاجتماعية قد تلاشت إذ فجأة، ولا وجدت لها حلولا فورية بسقوط النظام.
لم يشهد الناس ارتفاعا فى مستوى معيشتهم ولا وُزِّعَت عليهم أنصبتهم من الثروات المنهوبة، لم يحدث شىء من هذا حتى ترتسم تلك الابتسامة العريضة التى ضمت معانى لا أول لها ولا آخر، لم يكن هناك سبب سوى عودة الإحساس بالكرامة والأمل. حين انقضت اللحظات المُلهِمَة وفَتُرَ الأمل وذابت أحلام التغيير تبخرت إمارة السعادة الحقيقية الوحيدة التى كست الناس دون سابق إنذار وسرعان ما اختفت ابتساماتهم فى أشهر معدودة وحل محلها البؤس والجهامة مرة أخرى.
●●●
احتفل العالم للمرة الأولى هذا العام بإرساء يوم عالمى للسعادة اختارت له الأمم المتحدة العشرين من شهر مارس ليصبح تذكيرا سنويا بأن ثمة بشرا أشقياء وآخرين ينعمون بالسعادة والتحقق والاكتفاء. أذكر أننى سمعت فى الشهر ذاته وللمرة الأولى أيضا؛ المناضل العتيد كمال خليل يهتف «عاوزين نبنى حياة سعيدة».
كان الهتاف جديدا بحق على أذنى وسط الشعارات السياسية والاجتماعية الكثيرة المتشابهة. فكرت: لم يعد الأمر إذن عيشا وحرية وعدالة اجتماعية فقط ثمة مفهوم جديد يتسلل إلينا مفهوم أكبر وأشمل وأكثر قوة السعادة تضم المطالبات الثلاثة التى رفعتها الثورة وتجمع معها الكثير من التفاصيل الكبيرة والصغيرة وتتسع دائما للمزيد. ترى هل ترتسم الابتسامة مرة ثانية على الوجوه المنقبضة والشفاه التى صارت متصلبة فى وضع الامتعاض خلال الأيام المقبلة؟ هل تخصنا السعادة بزيارة أطول من سابقتها ولو قليلا؟