ما زلت أذكر تلك اللحظة التى تصديت خلالها طفلا للإجابة عن سؤال أثارته مدرسة التاريخ فى أحد فصول المرحلة الابتدائية. كانت تسأل ببساطة عن أول رئيس جمهورية فى تاريخ مصر فقلت لها بكل ثقة: إنه «محمد نجيب».. فما كان منها إلا أن أنكرت هذا الاسم تماما، وأبدت جهلا به بل ولم تجلسنى إلا بعد أن أضحكت على سائر الزملاء!
كانت كتب التاريخ على عهد طفولتى صفحة من كتاب سياسى أصفر، غص بسطور من الدعاية، وإعلان الهزيمة لكل ما يخالف أو يهدد استقرار النظام ــ فى خيال المؤلفين طبعا.. كانت انتصارات الأسرة العلوية قلت أو كثرت تشوه بأتفه الادعاءات، فقناة السويس بما تدره على مصر حتى يومنا هذا من خيرات، هى مشروع معيب قتل المصريين أثناء شقه، وأفقر المصريين أثناء حفل افتتاحه، وظلم المصريين أثناء صفقة عقد امتيازه والثمن «طبق مكرونة» قدمه «ديلسبس» للخديوى توفيق!
***
تأسيس أجيال متتالية على نظرة متطرفة للأمور، لا ترى سوى الأبيض الناصع أو الأسود القاتم هو فى ذاته مفصل من مفاصل نشر التطرف العقائدى بين العوام. لو أنك فى تعليمك النشء تركت له مساحة من النقد يحلل فيها المزايا والعيوب، يرى فيها ما يخالف رأى المؤلف ذاته باطلاعه على رؤى عدد أكبر من المؤلفين، لكانت النتيجة أجيالا ناقدة واعية منصفة، تبحث عن الحقيقة ولا تسقط ضحية سهلة لنظرية المؤامرة السطحية. تلك محنة عاشها الدكتور طه حسين عند تأليفه «فى الشعر الجاهلى». فلو أنه صور المجتمع الجاهلى كيانا منحلا لا خير فيه أبدا، وجعل ينشد آيات الفجور أبياتا لم يكتبها سوى كفار ما قبل البعثة المحمدية.. لما تعرض لمحنته التى شككت فى عقيدته وامتحنتها أمام النيابة العامة!
ولأن قوام ثورة يوليو هو الجماهير التى تفشت فيها الأمية كأحد أخطر مثالب حكم أسرة محمد على، فقد رأى بعض الثوريين أن يغذوا تلك الجماهير طعاما سائغا يسهل لعقولها البسيطة هضمه. فما لنا وما فعلته أسرة محمد على من إنجازات تاريخية؟ هى أسرة من المنحلين السذج الأغبياء الطامعين.. الذين لم تر البلاد خيرا فى حكمهم! هكذا وبكل بساطة لا تجد نقيصة إلا نسبتها إلى أحد أبناء وأحفاد محمد على، ولا ترى بارقة خير إلا نسبتها إلى أى مخلوق لا تجرى فى عروقه دماء العلويين. كيف كانت مصر فى نهاية حكم تلك الأسرة دائنة للتاج البريطانى وكان الجنيه المصرى أعلى قيمة من الجنيه الذهب؟ هذا أمر تافه لا ينبغى أن تذكره كتب التاريخ.. كيف تم شق الترع والرياحات وإقامة القناطر والسدود، وزيادة الرقعة الزراعية والبدء فى إقامة المصانع الحديثة والبنوك الوطنية؟ هذا موكول إلى عرق المصريين ولا مكان فيه لعنصرى التخطيط والتنظيم.. كيف تقدمت مصر فى إقامة وإدارة المجالس النيابية، وازدهرت الحياة الحزبية خاصة ما بعد ثورة 1919؟ هذا كله عيب وفساد وتآمر على الشعب لأن الأحزاب لم تكن تنظر إلا لمصالحها، كما أن السراى كانت تتدخل دائما فى عمل تلك الأحزاب!. كيف تم بناء الجيش نفسه والسماح إلى أبناء البسطاء أن يتدرجوا فى أعلى مناصبه؟ هذه منحة الله لا الحاكم!
هذا التشويه المتعمد يسىء إلى مصر كلها، والتى لا يصح اختزالها فى أسرة حاكمة أو طبقة من الحكام.. كما يسلب الأجيال الناشئة أداة تقييمها للأمور والحكم على المقدمات بالنتائج، ويلقى بها فى تيه رؤية النصر هزيمة ورؤية الهزيمة نصرا.. هذه البلبلة فى المعايير والخلل فى الموازين ينشئ أجيالا غير سوية، يهدم الثوابت ويجادل فى المسلمات التى دونها يضيع كل منطق. أو لو كانت كل تحديات الفساد (على هوانه) وتغول سلطة الملك من أعراض كثير من الديمقراطيات لدى نشأتها؟ أو لو كانت كل تلك العيوب لم تمنع الوفد (حزب الشعب آنذاك) من أن يصل إلى الحكم ويوقع على معاهدة 1936 ثم يلغيها باسم الشعب ليسطر مستقبل التحرر التام من الاحتلال، معليا مصلحة الوطن على أى اعتبار؟! أو لو كانت البلاد تمر بطارئة استثنائية لا مثيل لها فى التاريخ، وقد مر العالم بحربين عالميتين وكانت مصر فى القلب من أخطر معارك ثانيتهما، والتى حسمتها بشكل كبير (معركة العلمين) وكان كل ذلك مدعاة للصبر على ثمار الحركة الليبرالية؟!
لا بأس فلا يمكننا اليوم أن نحكم على المشاعر الوطنية آنذاك، والتى ألهبت الجماهير ضد نظام الحكم كله، وأرادت أن تسقطه.. حركة التاريخ نفسها كانت تتجه نحو إقامة أنظمة جمهورية، أقر بذلك الملك فاروق حينما كان يمزح قائلا لن يبقى من الملوك مستقبلا سوى ملك بريطانيا وملك الكوتشينة! لكن ما نرجوه ونلتمسه هو قدر من الإنصاف فى النظر إلى التاريخ وأحداثه، لا بدافع إنسانى ولدفع الظلم عن سمعة الأشخاص وحسب، ولكن أيضا بدافع برجماتى يقيم من خلاله قلم المؤرخ ميزانا أقرب إلى العدل لتقييم الشخوص والأحداث، فلا يساء إلى الآخرين بذات القسوة والتطرف الذى تعرض له الأولون.. ولا ينظر إلى رموز يوليو بنتائج الحروب والمعارك التى خاضوها فقط، وبمراكز القوى وتفشى الفساد فى عدد من طبقاتها، وبتراجع الكثير من مؤشرات التنمية البشرية عبر السنوات... إن أردنا الإنصاف لتلك الرموز وأنظمة حكمهم فعلينا أن نزن أحداث التاريخ بميزان مختلف عن أطباق المكرونة واتهام ملك يكره معاقرة الخمر بأنه لم يكن يفيق منها!... إلى غير ذلك من صغائر لن تنتج إلا حكما مشوشا على التاريخ، ينتقص من مصر التى نحبها جميعا، والتى ينبغى أن يتصل ماضيها بحاضرها ومستقبلها وإلا فقدنا الكثير من التقدير فى نظرة العالم لنا، وفى نظرة الأجيال الجديدة إلى وطنهم ذى الحضارة الاستثنائية المشرفة.
***
يقول اللواء محمد نجيب ــ رئيس مصر الذى كانت تجهله مدرسات التاريخ ــ فى كتابه كنت رئيسا لمصر: «لقد كان عندنا نماذج رائعة كان لابد أن نمشى على طريقها مثل طلعت حرب.. لكننا كنا نتصور أننا يمكن أن نفعل المستحيل وأن نصنع المعجزات وأن لا شىء يمكن أن يقف أمامنا.. وكانت النتيجة هو ما نعيشه الآن.. صناعات تخسر وبضائع عاجزة عن المنافسة.. ودول كثيرة بدأت بعدنا أصبحت أفضل منا وعمال يعملون أحيانا أقل مما يتقاضون.. وحقوق بلا واجبات وتسيب.. وبطالة مقنعة وروتين شرس»..
ينتقل بعدها رئيس مصر الأسبق إلى نقد عنيف لما وصفه بالطفرة مقابل التدرج.. وأظننى أؤمن معه بأن مصر يصلح معها دائما نماذج التدرج الراديكالية أكثر من الطفرات المفاجئة والثورات التى عادة ما تريد تغيير كل شىء، بينما الأصلح هو أن نغير ما يستحق التغيير ونثمن ونبنى على ما يستحق البقاء.. لكن أقلام المؤرخين لم تكن محض سطور فارغة بل عقيدة راسخة لهدم كل ما مضى حلوه ومره.. حتى كتاب الروايات كانوا يشطحون فى تشويه رموز النظم المنقضية، اختلقوا واقعة الأسلحة الفاسدة التى جسدتها السينما المصرية فى أكثر من عمل، والتى شهد رجال الثورة أنفسهم على أنها كانت إفكا، وكان فساد بعض الأسلحة ناتجا عن لجوء السراى إلى عقد صفقات سلاح مع تجار الأسلحة، الذين يبيعون مخلفات الحرب الثانية، كنتيجة طبيعية لامتناع بريطانيا والدول الكبرى عن بيع السلاح لمصر لمقاتلة عصابات الصهاينة.. الغريب أن محكمة أقيمت فى عهد الملك أدانت بعض الأسماء فى تلك الصفقات، ومحكمة أخرى أعيدت فى عهد ما بعد ثورة يوليو قضت ببراءة الجميع! لكننا ما زلنا نتحدث عن تلك الوقائع وكأنها كانت حقيقية دون أن نقر بكذبها وكان أبى ــ رحمه الله ــ شاهدا على تلفيق تلك الكذبة كونه كان ضابطا فى الأسلحة والذخيرة وقت حرب 1948 وأخبرنى أن بعض مواسير البنادق والمدافع كانت تسخن كونها مستعملة وتم جمعها من مخلفات ميادين القتال فى الحرب العالمية الثانية، ولم يمت ضابط أو جندى واحدا على أثر استخدامه لتلك الأسلحة، بل ثمة إصابات وأضرار.
***
القراءة المتأنية فى تاريخ ثورة يوليو 1952 وفى مذكرات سليمان حافظ وعبداللطيف البغدادى وخالد محيى الدين وجمال حماد.. وغيرهم ترشدنا إلى أن النزعات الشخصية كان لها أثر سلبى على مجريات الأمور، وأن كراهية الثلاثى (على باشا ماهر، وعبدالرزاق السنهورى باشا، وسليمان بك حافظ) للوفد ولشخص النحاس باشا تحديدا كانت كفيلة بخلق فزاعة شعبية ضد عودة الحياة الحزبية والديمقراطية، ورفع القيود عن ممارسة الحقوق السياسية، وعودة الجيش إلى الثكنات بعد انتهاء عمل الجمعية التأسيسية.. وهو ما تسبب فى خروج الجماهير لأول مرة فى تاريخ البشر هاتفة بسقوط الديمقراطية فى أعقاب حوادث مارس وأبريل الفاصلة فى تاريخ مصر فى عام 1954.. بل يقر سليمان حافظ (نائب رئيس مجلس الدولة عند قيام الثورة) بدوره فى إسقاط دستور 1923 وما تسبب فيه ذلك من نكبات متتالية.
الحديث فى هذا الأمر يطول، ولكن موضوع المقال الذى يأتى فى تاريخ الاحتفال بذكرى 23 يوليو يقف عند تصوير سوءة التحيز وغياب الموضوعية ورفع قميص عثمان استغلالا للعصبية والشعوبية، وما تنتجه من مصائب عابرة للأشخاص والأحداث والدهور. لا نقيم محاكمة للماضى ولا نريد للموتى أن يبعثوا من القبور، بل نتطلع إلى مستقبل نتعلم فيه من أخطاء الماضى، ونحقق فيه الإنجازات على أسس من الدراسة والعلم والتخطيط، فلا يسقط بناء جميل لمجرد أن مهندسه شخص نبغضه، ولا نرفض عملا صالحا لشنآن قوم كانوا يعملونه.
رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية
الاقتباس
لكن ما نرجوه ونلتمسه هو قدر من الإنصاف فى النظر إلى التاريخ وأحداثه، لا بدافع إنسانى ولدفع الظلم عن سمعة الأشخاص وحسب، ولكن أيضا بدافع برجماتى يقيم من خلاله قلم المؤرخ ميزانا أقرب إلى العدل لتقييم الشخوص والأحداث، فلا يساء إلى الآخرين بذات القسوة والتطرف الذى تعرض له الأولون.