فى خضم مناقشات مطولة بعيدة عن مهام صياغة الدساتير باعتبارها تقنن عقدا اجتماعيا جديدا يعبر عن توازن بين مصالح القوى والفصائل التى صنعت الثورة. وفى جو صراع مقيت من أجل مصالح ضيقة وتحكمه حزازات قديمة بدأت اللجنة التأسيسية الثانية عملها بروح وطنية وجادة على صدى حوار مجتمعى راق تشارك فيه كل ألوان الطيف لوضع قواعد ومراحل صياغة دستور يعبر عن مطالب الجماهير التى قامت الثورة من أجلها.
وقد شهدت الفترة الماضية أحكاما صادمة ومتعاقبة أصدرتها المحكمة الدستورية العليا فى شأن أمور سياسية رأى البعض فيها تجاوزات خطيرة وانحراف ظاهر لصلاحيات المحكمة والهدف من تشكيلها وقد دفعنى ذلك الجدل للتطرق لهذا الموضوع دون غيره من القضايا المهمة المطروحة على الجمعية التأسيسية حاليا.
●●●
والمعروف أن رقابة القضاء لدستورية القوانين فى مصر قد طرحت للبحث فى احكام المحاكم منذ عام 1920 قبل أن تطرح على المستوى التشريعى. وقد أيد الفقهاء حق المحاكم فى مراقبة دستورية القوانين التى تطرح عليها والامتناع عن تطبيقها فى النزاع المعروض عليها دون التعرض للقانون ذاته أو القضاء ببطلانه.
وقد توالت الأحكام التى خاضت فى مسألة الرقابة الدستورية منذ العشرينيات غير أن حكم محكمة القضاء الإدارى الصادر فى فبراير 1948 فى القضية رقم 65 لسنة 1 ق: قد شكل العلاقة الفاصلة ونقطة التحول الحقيقى فى موقف المحاكم المصرية بالنسبة للرقابة على دستورية القوانين والذى ـ بصدوره ـ لم يعد هناك شك بعد ذلك فى أحقية القضاء فى رقابة دستورية القوانين. وقد أسست المحكمة حكمها على عدة دعائم أهمها، أنه ليس فى القانون المصرى ما يمنع المحاكم المصرية من التصدى لبحث دستورية القوانين والمراسيم بقوانين من ناحية الشكل أو الموضوع. وأن التصدى من جانب المحاكم لرقابة دستورية القوانين فيه إعمال لمبدأ الفصل بين السلطات ووضع للأمور فى نصابها الدستورى الصحيح. الدستور وقد أناط الحكم للسلطة القضائية مهمة الفصل فى المنازعات المختلفة فإنها وهى بصدد مهمتها قد تتعارض أمامها قاعدتان ولابد للمحكمة أن ترجح إحدى القاعدتين، ويستتبع ذلك أنه إذا تعارض قانون عادى مع الدستور وجب عليها أن تطرح القانون العادى وتهمله وتغلب عليه الدستور وهى فى ذلك لا تعتدى على السلطة التشريعية، ما دامت المحكمة لاتضع بنفسها قانوناً ولا تقضى بإلغاء قانون ولا تأمر بوقف تنفيذه.
وقد خلت الدساتير المصرية المتعاقبة من نص ينظم مسألة الرقابة على دستورية القوانين سواء بتقريرها أو بمنعها ، إلى أن صدر قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 81 لسنة 1969 بإصدار قانون المحكمة العليا كانت هذه أول تجربة لإنشاء محكمة دستورية متخصصة يناط بها دون غيرها مهمة رقابة دستورية القوانين، هى تجربة «المحكمة العليا» والتى تولت مهمة الرقابة الدستورية وباشرتها مدة تقترب من العشر سنوات .
●●●
ويعد دستور 1971 هو أول الدساتير المصرية التى تضمنت نصوصاً تنظم رقابة دستورية القوانين وأوكل أمر هذه الرقابة إلى محكمة خاصة سماها « المحكمة الدستورية العليا » وقد نظم الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح فى خمس مواد منه من المادة 174 وحتى المادة 178 .
وقد جعل الدستور « المحكمة الدستورية العليا هيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها» تتولى ـ دون غيرها ـ مهمة الفصل فى دستورية القوانين واللوائح، وكذلك تفسير النصوص التشريعية وقد أحال الدستور إلى قانون المحكمة ليتولى مهمة تنظيم باقى الاختصاصات الأخرى أو التشكيل، والأحكام التى تصدر من المحكمة الدستورية العليا وآثارها.
وقد صدر القانون رقم 48 لسنة 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليات لينظم عمل المحكمة واختصاصاتها وسائر شئونها فور تشكيل المحكمة الدستورية العليا. وبمراجعة كل هذا البنيان القانونى والدستورى نجدها لا تحيد عن احترام مبدأ الفصل بين السلطات.
فمن الواضح من اتجاه المحاكم فى مصر أن الرقابة الدستورية نابعة ومؤسسة على مبدأ الفصل بين السلطات وهو ما أكدته القراءة السليمة والتحليل القانونى لهذه الرقابة، ومن هنا لا يمكن أن تتعدى الرقابة الدستورية حدودها بانتهاك مبدأ الفصل بين السلطات، فالحكم الصادر بعدم دستورية تصرف أو إجراء معين يوقف تطبيق هذا العمل أو الإجراء بعيدا عن التدخل فى اختصاصات السلطة التشريعية.
●●●
ومن المفيد فى هذا التحليل أن نراجع تطبيق الرقابة الدستورية فى عدد من الدول الأجنبية حتى نرجع المبدأ إلى أصله ونتفادى التجاوز والمبالغة فى تطبيقه بالتعدى على اختصاص السلطة التشريعية.
حول طبيعة المجلس الدستورى الفرنسى كان الجدل عنيفا بين رأيين وهما هل له طبيعة سياسية أم قضائية؟ يقدم أصحاب نظرية الطبيعة السياسية للمجلس ـ جانب محدود من الفقه كان يؤازرهم أعضاء فى المجلس الدستورى نفسه ـ حجتين أساسيتين لدعم نظريتهم : الأولى طريقة تعيين أعضائه من السلطات السياسية العليا فى الدولة. فكانوا يرون فى هذا تسييسا للمجلس. والثانية، تحيل إلى أن فكرة الرقابة الدستورية على القوانين، العمل الأساسى للمجلس، هى عمل سياسى أكثر منه عمل قضائى. فتدخله قبل إصدار القوانين لرقابة تسبق الإجراءات التشريعية يقود المجلس إلى أن يكون فاعلا فى هذه الإجراءات أو « شريك مشرع» من بعض الوجوه والذى يمارسه هنا ليست رقابة قضائية وانما مؤسساتية. ويرى البعض أن الرقابة هنا لا تشكل نزاعا، ولكنها قراءة تكميلية للقانون فى مجمله هادفة إلى تفحص ما إذا كان القانون مطابقا للدستور.
والرأى الثانى الذى يركز على الطبيعة القضائية للمجلس هو الرأى السائد لدى غالبية الفقهاء. يعود الفضل بتعميقها والإقناع بها إلى عضوين سابقين فى المجلس الدستورى وهما مارسال والين وفرنسوا ليشار ولم يعد يجادل احد اليوم بكون المجلس الدستورى محكمة ذات خصوصية. كما أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وصفت المجلس الدستورى بأنه « قضاء دستورى». وقد تجاوز الزمن الجدل حول طبيعة المجلس.
وحول صلاحيات المجلس: فى مجال الرقابة الدستورية ورقابة مطابقة بعض النصوص القانونية للدستور عملا بأحكام المادة 165 من الدستور، يفصل المجلس الدستورى فى دستورية المعاهدات والاتفاقات والاتفاقيات، والقوانين، والتنظيمات، وفى مطابقة القوانين العضوية والنظام الداخلى لكل من غرفتى البرلمان للدستور. وهذه الرقابة ليست تلقائية، إذ لا يمكن ممارســتها إلا بنـاء على إخطار من إحدى السلطات المؤهلة دستوريا. وهذه السلطات هى رئيس الجمهوريـة، ورئيسا المجـلسين البرلمانيين. وفيما يخص القوانين العضوية والنظام الداخلى لكل من غرفتى البرلمان، يمارس المجلس الدستورى رقابة المطابقة للدستور إجباريا ولم يصدر المجلس الدستورى، بعد مرور عشرين سنة من إنشائه، سوى عدد متواضع من الآراء والقرارات لأنه لم يخطر كثيرا كون الإخطار يكتسى طابعا اختياريا ومحدودا. وفضلا عن ذلك، لم يخطر المجلس الدستورى، طوال هذه المدة، بالقوانين المتعلقة بالموافقة على الاتفاقات الدولية، وكذا بالنصوص التنظيمية .
أما فى المجال الانتخابى فعملا بالمادة 163 ـ الفقرة 2ـ من الدستور، «يسهر المجلس الدستورى على صحّة عــمليات الاستفتاء، وانتخاب رئــيس الجــمهورية، والانتخابات التشريعية، ويعلن نتائج هذه العمليات». ويوضح الأمر المتضمن القانون العضوى المتعلق بنظام الانتخابات المذكور أعلاه، هذا الاختصاص.
●●●
المحكمة العليا للولايات المتحدة : هى أعلى هيئة قضائية فى الولايات المتحدة، تؤدى إلى القضاء الاتحادى. وتتكون من رئيس المحكمة العليا للولايات المتحدة وثمانية قضاة معاونين، يأخذ القضاة مناصبهم لمدى الحياة، التى لا تنتهى إلا عند الوفاة أو الاستقالة أو التقاعد أو الإدانة. والمحكمة العليا هى فى المقام الأول محكمة استئناف، لكنها لا تملك الاختصاص الأصلى إلا فى مجموعة صغيرة من الحالات.
وينص الدستور على ان السلطة القضائية تمارسها محكمة عليا واحدة و محاكم ادنى كما يحددها الكونجرس من وقت لآخر وتختص بنظر كل الامور المستندة لأحكام الدستور أو القانون، وهى كما نرى محكمة استئناف عليا لكل احكام المحاكم و غيرها من المنازعات ولا سلطة لها على الكونجرس بالحكم بإبطال انتخاباته أو بحله احتراما لمبدأ الفصل بين السلطات ولكنها تستطيع الحكم بأن إجراء ما مخالف للدستور دون أن تتعرض للدستور ذاته أو للسلطة التشريعية .
●●●
ويتضح من العرض السابق ان الرقابة على دستورية القانون لا يمكن أن تمتد بأى حال من الأحوال الى العدوان على البرلمان الممثل للسلطة التشريعية فتكون الأحكام التى تصدرها المحاكم قاصرة على ابطال التصرف أو الإجراء الذى يخالف قواعد الدستور دون التعرض لشرعية وجود البرلمان ولا حله.
وعلى ضوء ما سبق اطرح على الجمعية التأسيسية اتخاذ نظام على نسق المجلس الدستورى الفرنسى بدلا من نظام المحكمة الدستورية العليا التى تختص وحدها وتحتكر تفسير الدستور ووقائع انتهاكه، وان تشكل كمجلس يعتبر المرجع الأعلى لأحكام المحاكم وتتولى فى ذات الوقت مهمة الاشراف على الانتخابات البرلمانية والرئاسية بدلا من اللجان القائمة.