فى الثالث والعشرين من شهر سبتمبر الحالى تحل ذكرى ميلاد الأستاذ هيكل الذى تظل قيمته حاضرة وتستحق سيرته الاحتفاء. فقد استمد مكانته وتفرده من عمر مديد، ومن صناعة نموذج فى العمل الصحفى والإعلامى غير مسبوق وصعب التكرار.
احتل القمة صحفيًا وكاتبًا ورئيسًا للتحرير وأعظم صانع للأخبار ومتابع لها، وفاض بنحو خمسين مؤلفًا فى الحرب والسياسة والعلاقات الدولية وما يجرى فى الشرق الأوسط وتاريخ الصراع العربى مع الكيان الصهيونى.
كان من الطبيعى أن يكون بينه وبين أقرانه ــ عندنا فى زمنه ــ سنين ضوئية، لذلك جلس متربعًا على مقاعد الكبار بين رموز شهيرة فى العالم ممن ينتمون لعالم الصحافة.
حفر هيكل مساره من عمل لا يتوقف، وعلاقات ممتدة ومؤثرة، وعقلية مؤسسية صاغت الحياة والعمل بنظام لا يختل وبصرامة صمدت أمام تغير المواقع والمناصب والأنظمة والعلاقات، وانحيازات سياسية وفكرية وثقافية يراها من قبيل المسلمات لأى صاحب قلم يحترم نفسه ويحترم قارئه ويحترم وطنه.
لذلك من الطبيعى لشخصية بهذا الحجم وهذا العطاء أن تتجلى مظاهر حضورها بعد رحيل صاحبها، وأن تتنوع مظاهر الاشتباك معها بالاتفاق أو الاختلاف أو الجدل، ولا ينطبق عليها القول «مر من هنا ورحل».
وعلى الرغم من أننى من الذين يؤمنون بأن الأجيال الجديدة يمكن أن تعوّض قامات أجيال سابقة وأن تطالها فى العطاء وتزيد ــ بحكم تنامى المعرفة والخبرات، وأعتقد أن المستقبل هو الأفضل، وأن الحجب مهما طالت لا تمنع قوانين الحركة من الوصول إلى مبتغاها ــ فإن هذا لا يمنع إحساسنا بفراغ فادح تركته رموز عديدة وقامات مهمة فى كل المجالات، ويزيد من هذا الإحساس جفاف الواقع الملموس وجفاء المناخ العام لأسباب يطول شرحها.
ظل الأستاذ هيكل ــ حتى أيام قليلة قبل رحيله ــ يشعر بمسئولية تجاه مهنة وهب لها حياته، وفى حوارات كثيرة لى معه كان يرى ملامح الأيام المقبلة شاخصة أمامه.. ويرى ــ بأسف ــ أن المهنة ذاهبة إلى المجهول، وشبابها إلى معاناة تنال من حرية أقلامهم ومكانتهم ومن ظروف حياتهم، وكان مشروعه ــ الذى خط تفاصيله فى مؤسسة تحمل اسمه قبل رحيله بسنوات وخصنى بنسخة منه ــ هو سبيله للصد والدعم، ولم يكن غريبًا أن تكون ضمن أولويات مؤسسته «مكتبًا مكلفًا بخدمة مهنية مستمرة، وبلا مقابل، حتى تتوافر مصادر ومراجع متجددة، مضافة لمن يشاء من المشتغلين بالمهنة، ويكون بين بنود هذه الخدمة توفير متابعة للإعلام الدولى فى أخباره وتحليلاته، بحيث يكون فى وقته ولحظته تحت تصرف الراغبين فى الاطلاع عليه من الصحفيين، خصوصًا شبابهم».
وكذلك «إيفاد بعثات تدريبية إلى الخارج لفترات مناسبة فى صحف عالمية كبرى، بحيث يستطع الصحفيون الشبان أن يتعرفوا ويستوعبوا مستوى وأساليب وأجواء العمل الصحفى فى ظروف مستجدة ومتقدمة». وإصدار نشرة دورية بأهم المستجدات فى ميادين التكنولوجيا المتصلة بالعمل الصحفى.
ولم يتوقف حلم المؤسسة عند ذلك فقط، بل امتد لإتاحة سجل توثيق مهنى يضم تشريعات حرية النشر ومواثيق الشرف، وما يتصل بها من التزامات المهنة وآدابها وتقاليدها، وذلك إلى جانب أهم الآراء وأحدث الاجتهادات فى مجال حرية النشر والتعبير وتسهيل حضور عربى مناسب وكفء فى اللقاءات والاجتماعات المهنية، التى تقيمها اتحادات الصحف ونقاباتها ونواديها وكليات الصحافة فى أماكن متعددة من العالم، بحيث يكون شباب المهنة طرفًا فى حوار المهنة؛ عبر الحوار وعبر الثقافات وإتاحة إمكانية خلاقة للتفاعل بين مختلف التعبيرات الصحفية من الجريدة إلى المجلة إلى الإذاعة إلى التليفزيون إلى وكالات الأنباء، باعتبار أن الصحافة، وهى الإعلام المكتوب، مهمة موصولة بمهام متعددة يقوم بها الإعلام المنظور والمصور والعابر للحدود.
وقد وضعت العراقيل المختلفة أمام قيام هذه المؤسسة وبدء نشاطها الذى أكد انه يقوم على وقفية محددة ومتجددة، كافية لتحقيق أهداف المؤسسة التى يوفرها هو وأسرته دون اعتماد أو مشاركة من أى طرف محلى أو خارجى، وعندها قرر تركها وديعة وأمانة لدى أسرته وعائلته التى رأت عقب رحيله البدء بأحد خطوط مشروعه بتقديم جائزتين سنويًا فى ذكرى ميلاده للأعمال البارزة فى الصحافة العربية. ثم افتتاح جناح خاص بمكتبة الإسكندرية فى العام الماضى يضم بعضًا من الوثائق ومقتنيات الأستاذ الخاصة.
لكن يبقى الكثير من مشروع الأستاذ الذى خطه بيده ينتظر الخروج إلى النور فغير المكتبة العامة التى أراد أن تحوى ما تجمع لديه من كتب عن الصحافة والسياسة والحرب والتاريخ والمذكرات والأدب والفن، وغير ذلك من مجالات المعرفة والثقافة؛ أراد أن تضم مؤسسته مكتبة مفتوحة تحوى الأوراق الصحفية والسياسية له، بما فيها مجموعات كتبه ومقالاته وأحاديثه ومقابلاته، وما تجمع لديه من أوراق يمكن أن تكون لها قيمة بالنسبة للمشتغلين بالصحافة.
وأيضا وجود مكتبة سياسية يكون استعمالها وفق تصريح من مجلس أمناء المؤسسة، وتضم ما تحصّل عليه من وثائق (مصرية وعربية وعالمية) بما يلقى أضواء أبعد على مراحل مهمة من التاريخ السياسى الحديث للشرق الأوسط (بالتركيز على مصر والعالم العربى)، ثم متابعة ما يمكن أن يستجد.
وخطط الأستاذ هيكل أن يتولى الحفاظ على عمل المؤسسة وأهدافها مجلس للأمناء، يشارك فيه ممثلو الوقفية إلى جانب عدد من الشخصيات المهتمة بالمهنة وبالعمل العام لا يزيد عددهم عن سبعة افراد، ويشترط أن يكون بينهم نقيب الصحفيين المصريين، وكذلك إحدى الشخصيات العربية المعنية بصحافة العالم العربى، باعتبار تكامل العمل الصحفى على اتساع أوطان المنطقة.
ويختص برسم سياسة المؤسسة ووضع برامجها وإدارة أعمالها مجلس تنفيذى يتكون وتتحدد مهامه وفق لائحة يصدرها مجلس الأمناء.
وتضع المؤسسة كهدف عام لها مستقبل الصحفى العربى من كل وطن من أوطان الأمة، باعتبار أن الصحفى بذاته هو المؤتمن الأصلى على مستقبل المهنة والحفاظ على دوره التنويرى ضمن حركة التقدم الشاملة للأمة، والمحافظة على مستوى يساعد على تمكين الصحافة العربية من دور مؤثر فى محيطها يتواصل بالزمالة مع قوى التطور الأخيرة فى الإعلام الدولى وحركته المتسارعة. هذا هو المشروع أو الحلم الكبير الذى تركه لنا الاستاذ ومازال ينبض بالحياة بل ومازال يثير فينا الدهشة.. فهل تتسع صدور بعض الاحياء لتكون قادرة على استيعاب أحلام بعض من رحلوا!!