فى الأشهر القليلة الماضية أعلنت بعض المنظمات والحركات الاجتماعية عن اتخاذ مبادرات نحو استعادة دور الشرطة فى المجتمع وتفعيله، من بين تلك المبادرات الخروج مع أفراد الشرطة والوقوف معهم جنبا إلى جنب فى أماكن عملهم.
أتت تلك الخطوة فى سياق محاولة حل أزمة الثقة بين المواطنين وجهاز الشرطة الذى ترك ميراثا ثقيلا من التجاوزات والقمع، لكنها تبدو فى الوقت الحاضر خطوة شدية التبكير وغير كافية بالمرة.
إن عملية استرجاع الثقة والعلاقات المنبية على احترام الحقوق والواجبات لا يمكن أن تتم عن طريق الوساطة أو «العشم»، لكنها تحتاج إلى خطة معلنة لها بنودا ونقاطا واضحة ومحددة تصدرها وتنفذها وزارة الداخلية، بدلا من تصريحاتها الوردية التى تؤكد فيها تغيير سياساتها تجاه المواطنين، بينما يستمر سقوط ضحاياها من بينهم.
أظن أن طرح جدول زمنى يتضمن إعادة فتح قضايا التعذيب التى تم حفظها والتحقيق فيها ونشر نتائج تلك التحقيقات، وعزل المتورطين، وتبنى الدعوة إلى مراجعة القوانين التى لا تزال تحتفظ بثغرات هائلة، سمحت من قبل بحفظ الكثير من بلاغات التعذيب وبهروب الجناة من العقاب، ثم فتح ملف أمناء الشرطة وأوضاعهم المزرية وما يتلقونه من تدريب ودراسة، ووضع نظام داخلى صارم يحاسب المشاركين فى ارتكاب أعمال عنف إضافة إلى المساءلة القانونية، والإعلان عن تخفيض أعداد قوات الأمن المركزى والاستفادة بميزانيتها ربما فى تعويض الضحايا، أظن أن تلك الخطوات فى مجموعها يمكن أن تمثل بداية حقيقية للتغيير، الذى لن يتم أبدا ــ والحال كما هو عليه ــ عن طريق انفراد الحركات الاجتماعية والسياسية بتقديم دعم معنوى، يهدف لاسترجاع دور الشرطة دون أى ضمانات وإجراءات كافية وملموسة على أرض الواقع.
إن أكشاك المرور الجديدة اللامعة التى نشرتها وزارة الداخلية فى الشوارع، لم تفلح فى منع سائقى العربات من كسر الإشارة الحمراء، وتخطى العسكرى الذى ما زال على بؤسه، والذى لم يعد حتى متسقا مع اللافتة الزرقاء الجميلة التى عادت تحمل شعار «الشرطة فى خدمة الشعب».
●●●
ربما يجدر بنا أيضا الانتباه إلى أن تلك الثقة التى تجرى المحاولات المتعاقبة لاستعادتها وتدعيمها، ليست مفقودة فقط بسبب ممارسات العنف التى درجت الشرطة على انتهاجها، بل أيضا بسبب الأداء المهنى الضعيف، والإصرار على استخدام الوسائل والطرق القديمة التى أثبتت فشلها فى حل الأزمات، فالأحداث الطائفية التى تشهدها قرى ونجوع الصعيد غالبا ما تسير نحو عقد الجلسات الودية وإجراء المصالحات العرفية تحت رعاية مدراء الأمن ووزارة الداخلية، وهى المصالحات التى تثبت فى كل مرة عقمها وإتاحتها لمزيد من التجاوزات. على الجانب الآخر طالعتنا الصحف منذ فترة بتشكيل بعض التيارات الدينية لجانا مسلحة فى سيناء لحل المنازعات، وإعلانها وجود بضعة الآف من الشباب المستعد للتدخل بسلاحه عند وقوع الأزمات، فى غياب مريب للدولة والقانون.
إلى جانب هذا وذاك يجب أن نلتفت إلى خطاب وزارة الداخلية، الذى شابه التغيير فى الأسابيع الأخيرة، فبعد أن كان يستخدم مفردات المصالحة وفتح صفحة جديدة فى العلاقة بين الشرطة والشعب، أغلق هذا الباب تماما وحلت محله لهجة أكثر حدة، على سبيل المثال هناك تصريح وزير الداخلية الذى اتهم فيه الشهداء الذين قتلوا أمام الأقسام بالبلطجة، متناسيا أن أعمال البلطجة والخروج على القانون إنما كانت تتم داخل الأقسام وعلى يد أفرادها ضد المواطنين. هناك أيضا حالات التعذيب التى لم تكف عن الوقوع، وهناك قوات الأمن المركزى التى عادت إلى قمع وسحق المواطنين هذه المرة يدا بيد مع الشرطة العسكرية.
●●●
مرة أخرى، محاولات إيجاد حلول شكلية تعتمد على تغيير المظهر دون الجوهر وعلى بعض الابتزاز العاطفى، هى محاولات لن تثمر سوى مزيد من التعقيدات، ولن تسفر إلا عن إضاعة الوقت بلا داعى، فالشرطة تشارك فى عملية الفوضى على جميع المستويات بتقاعسها وارتباكها، وبعزوف وزارة الداخلية عن إجراء الإصلاحات الجذرية المطلوبة.