أظن إن جيلا فى أواسط العمر قد يذكر أيام كانوا فى المدرسة يترقبون زيارة المفتش التى يُعلَنُ عنها كحدثٍ جلل ينتظره الجميع. فى بعض الأحيان كان المفتش يحلّ دون سابقة معرفة ولا ترتيب فينتفض المكان لاستقباله. يدخل صامتا مهيبا، يؤدى عمله فيما الآخرون يرتجفون، لا تظهر ابتسامة على وجهه إلا فى أحوال نادرة كأن يلقى الحظ أمامه بطالب أو طالبة يختلف عن الباقين؛ نابغة فى العلم أو موهبة غير متوقعة فيتلقفها منبسطا باشا، وحين يرحل يتمكن قاطنو المكان أخيرا؛ تلامذة ومدرسون من التقاط الأنفاس.
خبرنا خلال فترة الدراسة ونحن بعد صغار، تفتيشا شبه يومى خلال طابور الصباح، يطمئن فيه المعلمون والمعلمات على المظهر العام للتلاميذ؛ الحذاء اللامع، القميص المفرود، الأظافر المقصوصة والشعر المرتب، باختصار يتأكدون مِن اهتمام البيت بالتفاصيل الدقيقة. جزاء الإخفاق فى استيفاء الشروط التى تضعها المدرسة كان متدرجا، فمن التوبيخ أمام بقية التلاميذ الواقفين، إلى عدم دخول الفصل، أو الحرمان مِن حصة الألعاب، وأحيانا استدعاء وليّ الأمر لبحث الأسباب والتنبيه على عدم تكرارها. لم يكن المظهر هو الأمر الوحيد، لا أنسى التفتيش على أداء الواجب أول كل حصة، يمر المعلم بين صفوف الجالسين، فينظر فى الكراريس المفتوحة على صفحة بعينها، يلمح فى جزء من الثانية ما هو مكتوب، يومئ برأسه راضيا أو تنقلب ملامحه منذرة بِشَرٍّ مُستطير.
<<<
بالنسبة للبعض بدا القلق اليومىّ أقل وأخف وطأة بكثير مِن ذاك الذى يصاحب زيارة المفتش القادم من بعيد. كان المفتش رمزا للسلطة العليا، وفى مخيلتنا بدا كما الإله، قادرا على الإثابة وعلى توقيع أشد العقاب والتنكيل بالمخطئين، كبرنا وعرفنا إن ثمة مفتشين آخرين أقسى وأعقد مِن مفتشى المدرسة، وإن منهم من هو أكثر عنفا ومن هو أشد وأدهى مكرا، وإن ثمة أنواعا متباينة من التفتيش.
أعرف عن مفتش الصحة، وعن مفتش التموين، لكنى لم أصادف أيهما من قبل. أعرف أيضا عن مفتشى الرقابة الإدارية الذين عادة ما يرتبط الحديث عنهم بمشكلات وأزمات كبيرة.تلوح غيومها فى الأفق، وعن مفتشى المباحث الذين يرتبط ذكرهم فى بعض الأحيان بمشاهد ولقطات لا تعوزها قتامة ولا مرارة.
التفتيش على كل حال يخيف، فالمفتش قادم وفى نيته أن يبحث عن الأخطاء وأن يبرزها ويضخمها، وفى بعض مرات يصطنعها، وإلا ما كان لعمله ووجوده فائدة. المفتش هو الشخص الغريب عن المكان، الذى تتلخص مهمته النظرية فى الكشف عن أوجه القصور وتعريتها، كخطوة على طريق إصلاحها وتداركها، لكن هذه الخطوة قد تتطور إلى فضيحة معلنة أمام الجميع، بل وربما تحولت إلى وثيقة مكتوبة تدين صاحبها وتطيح به من موقعه.
بعض الناس يقتصر عملهم فى الحياة على التفتيش. مِنهم مَن يفتِّش بمقتضى سلطة رسمية مخولة إليه، ومَن يفعل بمقتضى أخرى عرفية تواطئ عليها المجتمع منذ زمن بعيد. تفتش المرأة ملابس الزوج، تبحث عن رائحة، أو شعرة أو لون كما فى الأفلام القديمة، يفتش الأهل فى أغراض الأبناء والبنات، فى حقائبهم ومكاتبهم ودواليبهم وأدراجهم، اعتادوا الأمر منذ الأزل ولا يزالون حتى اليوم يفعلون، لكن مناطق التفتيش المعتادة اختلفت، فصاروا يتسللون إلى الصفحات الإلكترونية بحثا عن المحظور.
كما اختلفت الأماكن والمواضع وتطورت الأدوات، اختلف أيضا حجم السلطة الممنوحة لبعض المفتشين. ظهر أخيرا مفتش الأوقاف الحامل للضبطية القضائية، لا لينقب فى العقول والكلمات فقط، بل ليحيل أصحابها إلى الجهات القانونية مباشرة، تمهيدا لمنعهم مِن التفكير.
<<<
اختفى مفتش المدرسة منذ سنوات مِن على الخريطة حسبما أسمع مِن أصدقاء ومعارف كثيرين، لم يعد يزور المدارس ويختبر الطلبة ويراقب انضباط الأداء، ويطمئن على النظافة والنظام والحضور، وإن فعل فزيارة معلومة النتائج مسبقا، تحوطها المراسم التقليدية، لكنها فارغة المضمون والتأثير. الأكيد إن المفتش الذى ظهر فى أماكن أخرى وثوب جديد، لن يبحث فى شغف عن المتميزين، ولن يسعد بالعثور على أحدهم، بل ربما يصاب بالتوجس والغم، وعلى هذا فهو فمهمته مراقبة الأفكار، والتأكد من وجودها فى قالب وحيد، ومِن تماشيها مع منظومة مُحدَّدة لا تزعجه ولا تؤرقُ آخرين، مهمته أن يطمئن لتماثلها وتناسخها فى الرءوس شرقا وغربا، ثم يعاقب المختلفين.