صحوة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:21 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صحوة

نشر فى : الجمعة 22 نوفمبر 2019 - 8:50 م | آخر تحديث : الجمعة 22 نوفمبر 2019 - 8:50 م

يقول الناسُ عمَن تبلَّدت مشاعره وتكلَّست أن قلبَه مَيت. القلبُ المَيّت يعكس غلظةً وقسوةً وجفافًا؛ إذ لا يختلج أمام عِشقٍ ولا ينخلع في فاجعةٍ، ولا يضطرب تجاه ما يهزُّ الآخرين. صَحوةُ القلبِ بعد طول رقاد تضُخُّ الدماءَ في الشرايين، وتُحيي المشاعرَ وتنقِّيها.

***
تذكُر مَعاجمُ اللغة العربية أن الصَّحوةَ هي المرةُ الواحدةُ مِن الفعل صحا، والصَّحو هو نقيض السُّكْر، ويُقال صحا السَّكْرانُ بمعنى أفاق، وإذا لم يكُن مِن سُكْرٍ فالصَّحو يعني تَركَ الباطل. الصَّحو كذلك هو غيابُ الغَيمِ والبرد؛ تُوصَف السماءُ بأنها صَحوٌ ما تركتها السُحُبُ وتبدَّت شمسُها مُشرقةً دافئة. إذا غادر المرء حال الوله والعشق فقد صحا منه؛ قال جرير: أَتَصحُو أَم فؤَادُكَ غيرُ صاحِ؟ والمعنى أنه سكران مِن الحُب، مَفتون به عما دونه، أما في حقلِ الفلسفة الصوفية؛ فتشير الصَّحوةُ إلى رجوع العارفُ إلى الإحساس بعد غيبته.

***
إذا تحسَّن مريضٌ تحسُّنًا ملحوظًا وبدا في تعاف من مرض عضال؛ قيل هي صحوة الموت. محاولة أخيرة يشحذ فيها الجسد ما تبقى له من طاقة ويخرجها مرة واحدة؛ وغالبًا أخيرة.

***
اقترنت مفردة الصحوة بصفة "الإِسلاميةُ"؛ والقصد يَقظَة مِن بعد خُمول، ونشاط فازدهار يعقبان أفول. كثيرةٌ هي الصَحوات المرغوبة التي تظهر بين الحين والحين في الكتابات والأحاديث، بينما تقطع الأدلةُ الملموسة بأنها مَحضُ وَهم. تحتل الصحوةُ العربية موقعها على رأس القائمة؛ فالواقع يعكس خيبة كبرى، ومواتًا غير مَسبوق. ما من يقظة لمسئول واحدٍ تبعث الأمل في الناس، وما مِن صَحوةٍ تبثُّ الحماسةَ في العروق. تتطلَّب الصَّحوةُ المَنشودةُ مُراجعةً للذات، وإعادةَ نظرٍ في ما كان مِن إخفاق ورسوب؛ وقفة تتحرى الحقائقَ وتُسمّي الأشياءَ بأسمائِها؛ لا تُزيّن الواقعَ ولا تُجمّل وُجُوهَ الأنظمة البائسة أو تخلع عليها صفات مُقدَّسة.

***
قد تظل العواملُ المُؤديةُ إلى صَحوة الغافل خافيةً مُستَتِرة، لا تظهر على السطح ولا يدري بها أحد، بل يتساءل الناسُ عما جرى، وأفضى إلى الصحيان والانتباه بلا سابق تمهيد. أمثلة كثيرة أفاق فيها شخصٌ مِن غفوة ثقيلة؛ هادمًا توقعات المحيطين به، مغيرًا من حاله، مثيرًا للأقاويل.

***
جذب كتابُ ”عودة الوعي" لتوفيق الحكيم انتباهَ كثيرِ الكُتَّاب والساسةِ والمُثقفين؛ فصحوة مُتأخرة وإدراك، ثم استدراك لما كان. نالت الحكيم اتهاماتٌ عدة بسبب الكتاب، ففد عُدَّ مُقربًا من عبد الناصر في حينه، لكنه راح ينتقد عهدَه ويُعدِّد مَساوئه بعد الرحيل. قام الجدلُ حول ما طرأ على مَوقف الحكيم مِن تغيير، والأسباب التي أدت إلى تبدُّل حاله، ونحا النقاش إلى تقييم نُصوص الكتاب على مقياس الصدق والاتساق. ربما أجاب السياقُ عن بعض التساؤلات؛ فالخوف وإيثار السلامة قد يصنعان الكثير.

***
ربما تكون صحوة الضمير بعد خدر طويل؛ إيذانًا برد الحقوق إلى أصحابها وكفّ المظالم عن المقهورين؛ لكن تلك الصحوةَ تحديدًا بمنزلة استثناء لا قاعدة؛ فضمائر يابسة لا يُؤمَل في الأغلب أن تفيق، وإن أفاقت فبعد فوات الأوان.

***
كتب كامل الشناوي من بين ما كتب: قدر أحمق الخطى سحقت هامتي خطاه.. دمعتي ذاب جفنها.. بسمتي مالها شفاه.. صحوة الموت ما أرى أم أرى غفوة الحياة.. أنا في الظل اصطلي لفحة النار والهجير.. ومصيري يشدني لهوى ماله مصير. غنى عبد الحليم الأبيات في الستينيات، وهوجم لأسباب عدة تتعلق بالمحتوى والمعنى، فقد عده بعض من نصبوا أنفسهم حراسًا على عقول الناس؛ مجترئًا على الدين. يجذب التضاد بين مفردتي "صحوة" و"غفوة" الانتباه؛ خاصة في اقترانه بالتضاد بين الموت والحياة، إذ تغدو المحصلة خالية من المتناقضات؛ فإذا حضر الموت ونشط؛ تكاسلت الحياة وخبت علاماتها.

***
نشأت بالعراق كيانات مؤلفة من تجمعات عشائرية؛ عرفت بمجالس الإسناد والإنقاذ، هدفها المعلن مواجهة تنظيم القاعدة ووقف الفتنة الطائفية، وقد أطلق على هذه المجالس مسمى "الصحوة". هذه الصحوة تلقت من قوات الاحتلال الأميركي أموالا وأسلحة، بعض المرات بطريق مباشرة، وبعضها الآخر من خلال الحكومة العراقية. ادعى الطرفان وحدة أهدافهما، لكن النتيجة التي أحرزتها الصحوة لم تكن على الإطلاق مُرضية؛ فكأنها كانت موتة لا أكثر.

***
صحوة الشعوب والأمم في أرجاء المعمورة مدهشة للمتابعين؛ فثورة هنا وأخرى هناك؛ حركة تولد من سبات وفعل ينبلج من جمود ويحرض على المزيد، والمد يتنقل بين القارات دون الحاجة إلى إذن بالعبور أو تصريح، فيما الروابط التي تجمع الناس تتعاظم وتشتد. الصحوة استفاقة العقل؛ إدراك لاحق لما غاب وتوارى، طال الزمن أو قصر.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات