انسدَّت البالوعةُ وارتفعت المِياه في الحَوض ثم أغرقت الأرضيَّة، وباتت الحاجةُ لاستدعاء السبَّاك ماسَّة. نصفُ ساعةٍ فقط كانت كفيلةً بإحالةِ المكانِ إلى فوضى، وبثّ الارتباكِ ودَفع المُوجودين لإغلاقِ المَحبس طمعًا في إنقاذِ المكان. بعد انتهاءِ أعمالِ الإصلاح، بدأت عملياتُ التَجفيفِ وقَزحِ ما تراكمَ مِن مياه وتدارك الأضرار، وقد جلبَ الموقفُ إلى أذهانِ الحاضرين ذاك المشهدَ المُتكررَ؛ إذ يتعرَّضُ قاطنو المناطقِ الفقيرةِ عشوائيةِ الطابعِ للغرقِ مع حلول الشتاء. تدخلُ مياهُ الأمطار المُتراكِمَة مَساكنَهم، فيُضطرُّوا إلى التعامُل معها بجهودِهم الذاتية، ولا شكَّ أن قَزحَ المياه ونزحَها عملٌ شاق؛ خاصة ما عاندَ الطقسُ واندفقت السيولُ لتُضاعِف البلوى وتجسَّد القولَ المأثور: زاد الطين بلَّة.
• • •
يأتي الفعل قَزَحَ في قواميس اللغة العربية بمعنى ارتفع وبَعُد، الفاعلُ قازح والمَفعول به مَقزُوح والمصدر قزْح بتسكين الفاء، أما الفعلُ قزَّح بتشديد الزاي فيحمل معاني إضافيَّة؛ فإذا قزَّحت الشجرةُ كان القَّصد أنها تشعَّبت وازداد حجمُها، وإذا قزَّح الفنانُ الزُّجاجَ فقد لوَّنه، والقُزَحيَّة هي جزءٌ من عينِ الإنسان قد يُصيبها المَرضُ فتلتهب وتَحمرُّ وتورِث الألمَ الشديد.
• • •
قَزَحت الأسعار في الآونةِ الأخيرةِ بما لا يُطاق. عَلَت وتَضَاعفَت حتى بات التعجُّبُ وفَغْر الأفواه من مُتلازِمات التبضُّع في الأسواق؛ والحقُّ أن هذا التصاعدَ المُفزِع لم يُبقِ على غطاءٍ أو سَترٍ لدى الأغلبيةِ الساحِقة، ولم يعد بين الناسِ من يَتعفَّف عن ذِكر حاجتِه ومَلمَّته، أو يتحرَّج من الجأرِ بالشكوى؛ عسى أن يجدَ بين السامعين مَن يُشير عليه بحلٍ أو مَن يدلُّه على مَخرجٍ من الأزمة.
• • •
يُمثلُ قوسُ قُزَح ظاهرةً فيزيائيةً مَعروفةً تتعلَّق بانكسارِ الضَّوءِ وتحَلُّله إلى أصُولِه ومُكوناتِه الأولى؛ ليتبدَّى في الأفقِ على هيئةِ ألوانٍ سَبعة. ظلَّ العثورُ على قَوسِ قُزَح مُبهجًا مُفرحًا، لا يختلف عليه صغارٌ أو كبار؛ إلى أن تبدَّل الظرفُ وتغيَّر السياقُ وتحوَّل القَوسُ بين يومٍ وليلةٍ إلى رَمزٍ يَمقته البعضُ ويُحبُّه بعضٌ آخر، تدافع عنه جماعاتٌ وتهاجمه أخرى؛ ليصبحَ في نهاية الأمر مَصدرَ شدّ وجَذبٍ وأحيانًا إكراه، وليفقد بساطتَه وعذوبةَ منظرَه ويغدو ظهورُه على هيئةِ شارةٍ أو عَلَمٍ أو شِعار؛ دافعًا قويًا للخلاف.
• • •
كثيرًا ما نستعملُ تعبير: عدَّاه العَيبُ وقَزَح، لنؤكدَ أن الشَّخصَ المَعنيَّ بالوَصف قد أدَّى ما عليه كاملًا، ولا مَحلّ للومِه على تخاذُلٍ أو تقصير. تقع بعض الحكوماتُ والشعوبُ العربيةِ مَوقعَ المَلومِ المُدان، إذ لم يتجاوزها العَيبُ ولم يقزح بعيدًا عنها؛ بل غمرَها وأغرقَها وكسَاها حتى أطرافِها بثيابِ العَار؛ فقد تمكَّن منها داءُ القُّعودِ والاكتفاءِ بأفعالٍ افتراضيَّةٍ لا تُفارقُ مَواقِعها، فتندرج تارةً تحت بندِ المَنشوراتِ والمُشاركات، وتارة أخرى تحت بندِ التصريحاتِ والنداءاتِ والخطاباتِ؛ وكلاهما لا يُغير واقعًا ولا يُثمِر طيبًا، ولا يتحوَّل إلى إجارةٍ سريعةٍ حاسمةٍ لهؤلاء الذي يستنجدون؛ فلا يجدون إلا تواطؤًا مُريبًا، ويتعرَّضون للإبادة؛ فلا يلاقون إلا عناوين الصُّحفِ المَمجُوجة، وعلاماتِ التضامُن التي أمسَت تافهةً سخيفةً، والأوشحة التي زيَّنت مقاعد السيارات عجزًا، وأحاطت بالأقفيةِ المَحنيَّة.
• • •
يقول المثلُ فلسطينيّ الجُّذور: "إن قوَّست صُبحيَّة؛ خُذ عصاتَك والحق بالرعيَّة، وإن قوَّست عصريَّة دوَّر على مَغارة دفيَّة"، والكلماتُ تُوضح العلاقةَ بين توقيتِ ظهورِ قَوس قُزَح في السَّماءِ وبين الطَّقسِ المُتوقَّع بناءً عليه، ولا غرابة أن تَحملَ الحَضاراتُ القديمةُ ما يُدلل على مَعرفةٍ أصيلةٍ بظواهرِ الطبيعةِ وأسرارِها، وأن تحفلَ بعلاماتٍ أكيدةٍ يَندر أن تُخطئ.
• • •
بعضُ المرَّات يُقزّح المرءُ حديثَه، فيزيَّنه ويُجمّله ويَجعله في صورةٍ باهية، بغير أن يُزيفَ أو يَدعيَّ أو يكذب؛ وقد خلَّد المأثور الشعبيّ محاسنَ هذا الحديثِ في كلمتَين شافيتَين وافيتين: المَلافظُ سَعد. لا شكَّ أن مَن كان حلوَ اللسَان بَديعَ الكلام؛ جَنى القُّبولَ، ومَن غَلظت عباراتُه وجَفَّت أقوالُه؛ حظى بالنُّفور؛ لا يُهمُّ حينها ثباتُ المَعنى. ربما ينفلتُ الكلامُ قاسيًا عنيفًا بحكْمِ الضُّغوطِ التي نُعانيها، والمآسي التي نبيتُ ونصبِح فيها، تَخشنُّ منا المُفرداتُ ونفشلُ في غربلتِها وتَقزيحها لتتحوَّلَ إلى طلقاتِ رَصاص؛ تصيبُ العابرين في حيواتِنا دون تفرِقَة.
• • •
في وَصف المَعارك وخائضيها، يقول العبقريُّ الراحل أحمد فؤاد نجم: "طبّوا الفلاسفة في الغلط.. لما الزلط قدح الزناد.. نفر العناد عرق الغضب.. واقزح يا واد واضرب يا واد.. قزحت صعايده وفلاحين.. بحر الكنال في شمال يمين.. اجمد يا واد واضرب يا واد.. قزحوا الولاد.. قزحت قلوب الناس معاهم.. اسم النبي يحرس خطاهم"، والأبيات من قصيدة بعنوان: ضُلّيلَة فوق رأسِ الشهيد، والقَزْح يُؤخَذ فيها على أكثرِ من مَحمَل ومعنى؛ فالصعود والنُّهوض للمُقاتلين والإبعادُ والإزاحةُ للعدوّ، والحقُّ أننا نفتقر إلى مِثلِ هذا النظمِ البديعِ السَّلسِ في أيامِنا الحالية، فكثير أغانينا التي تُقدَّم على أنها وَطنية؛ تتسمُ بالبلادةِ على مستوى الَّلحن والكَّلمة؛ لا تُحرك شعورًا ولا تستثير عاطفة.