أهدانى الراديو هذا الأسبوع أغانى كثيرة من أزمان تظهرها صور قديمة أنها كانت جميلة، جلها أغانٍ لبنانية بأصوات فيروز ووديع الصافى وغيرهما. دندنت الأغانى فى السيارة ورددت أوبريت مع زياد الرحبانى، ثم تقصدت أن أستمع إلى أغانى سامى كلارك الذى رحل هذا الأسبوع آخذا معه كلمات حفرت فى طفولتى أفكارا حول انتصار مؤكد للخير على الشر. كانت فيروز صوت الأسبوع بلا منازع، رغم أننى عموما لست ممن يتقصدون الاستماع لها كل صباح، كما تقول الصورة النمطية «فيروز فى الصباح وأم كلثوم فى المساء».
• • •
تساءلت، بعد أسبوع بيروتى الهوا بسبب الأغانى والذكريات، ماذا سيفهم أولادى عن الارتباط بالمكان إن رحلت فيروز. هل سيفهم أولادى ارتباطى بمدينة ليست مدينتى إنما عشت فيها بعض سنوات شبابى وهى مدمرة تماما بسبب الحرب التى طحنتها؟ هل سيتفهمون بحثى الدائم عن آثار جمالها بين الركام، كما أبحث اليوم فى صور دمشق وحلب؟ تساءلت إن كان بإمكانى أن أشرح لهم سر أماكن تركت فيها بعضا من روحى وألصقت بى روائح تميزها عن غيرها. أمضيت ساعات هذا الأسبوع أفتش فى صور قديمة عن ملامح مدن اختفت كما عرفتها. مكتبة لطالما توسطت شارع «الحمرا» تقرر أن تغلق أبوابها أمام أجيال اشترت منها الكتب والمجلات والقرطاسية. أو ربما لم يعد الجيل الحالى، جيل الكتب الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعى، لم يعد يشترى الكتب والمجلات وحتى أقلام الرصاص. رحيل المطرب اللبنانى رمانى وسط صور من الثمانينيات، تلك الحقبة البشعة فى تاريخ لبنان، وهى نفس الحقبة التى غنى فيها أكبر وأشهر مطربى البلد ودندن أهل المنطقة كلها معهم أغانى صارت «أيقونية».
• • •
أبحث فى صور رقمية عن ملامح بيروت ودمشق وحلب والإسكندرية والقاهرة، هى ملامح لم أعرفها أنا بالضرورة، فأنا عشت وزرت هذه المدن بعد الأزمنة الجميلة فشهدت معالمها وأحببتها كمن يحب «ختيارة» تحكى له عن أيام شبابها، أيام اللولو، يرى المتسمع بين تجاعيد وجهها بواقى جمال ويصدقها. ذاكرتى عن هذه المدن مركبة وخليط بين المشاهدات الشخصية وما سمعته من غيرى وقرأت عنه فى الروايات.
• • •
على صوت وديع الصافى وفيروز، تساءلت فجأة إن كنت قد نقلت المدن هذه كما أحببتها إلى أولادى. شعرت أننى لم أنجح فى تحويل ولعى بهذه المدن إلى أولادى. شعرت أنهم قد يكونون من جيل لن يفهم قط حزنى على مدن تتفكك. لم أنجح إذا بإظهار هذه المدن على أنها مركز الكون، ومصدر الإلهام، ومكان تصنع فيه الكلمة والنغمة والفكرة. أشارك أولادى صورا عن مدن عرفوها فيستغربون: هذا ليس ما رأوه فى الزيارة. بين الصور والمشاهدة فجوة كبيرة، من الصعب أن أشرح لهم أنها المدينة نفسها.
• • •
أسأل نفسى ماذا نقلت إلى أولادى عموما عن العلاقة بمكان لم يعد جميلا لكنى أريدهم أن يروه كذلك؟ بدأت أعدد ما على أن أعطيهم: الشام، بمعناها الضيق أى دمشق ومعناها الأوسع أى المشرق، أريدهم أن يفهموا تعقيده وقدرة هوياته على القتل (بحسب التعبير شديد الدقة الذى أطلقه الكاتب اللبنانى أمين معلوف). هل سوف تأخذهم رائحة منقوشة الزعتر (طعام الفقراء كما يسميه الناس فى بيروت) إلى حارة ضيقة على ناصيتها الفرن؟ هل سيكرهون انتماءهم إلى هذه المنطقة بقدر عدم استطاعتهم على التخلص منها وإخراجها من تحت جلدهم؟ هل سيفهمون أنهم من منطقة أساسها متنوع رغم أننى أنا نفسى، المدافعة عن التنوع، لم أشهد سوى آخر أيامه وربما حتى لم أشهده أبدا؟ ليس فقط التنوع العرقى إنما أيضا التنوع الفكرى والإبداعى.
• • •
لماذا أصب على أولادى، وهم لم يضطروا أن يواجهوا أسئلة حول الانتماء، لماذا أصب عليهم أكثر علاقاتى تعقيدا وأتوقع أن يتبنوها من خلالى؟ ها أنا أعد خطة مدتها سنة، سوف أعلم فيها أولادى كلمات أغانٍ لزكى ناصيف، خصوصا «نقيلى أحلى زهرة»، لماذا؟ ناقشتنى صديقة أخيرا حول عامل النوستالجيا وكيف أنها لا تستسيغ هذا النوع من العلاقة بالأماكن والأزمنة، ولا تحب قراءة الأدب حين يجمل حقبة لا تنتمى إليها ولا يمكنها أن تتخيلها بعيونها التى ترى التفكك والتلوث البصرى. أفكر فيما تقوله وأنا أبحث فى تاريخ الأقليات (يا لها من كلمة مجحفة أصلا، ما علينا) وأحاول أن أتخيل آخر خمسين عاما بسياسات مختلفة. ماذا لو اختلفت السياسات فى المنطقة، وبقيت المجتمعات كما تصورها كتابات أحبها وتكرهها صديقتى المعادية للنوستالجيا؟
• • •
قد أنجح فى أن تحفظ ابنتى كلمات بعض الأغانى، أولادى يحبون المنقوشة، يسمون مياه الحنفية «فيجة» وهى كلمة دمشقية بحت، نسبة إلى مياه «عين الفيجة» التى كانت تغذى دمشق فاستسهل أهل المدينة الكلمة واستعملوها (وأنا منهم) للإشارة إلى المياه الجارية. لا يعرف أطفالى مصدر الكلمة ولا النبع الذى يقع فى ريف دمشق ولا يهمهم كثيرا أصلا. يتسلون بالإشارة فيما بينهم إلى رائحة المطبخ فى الشتاء حين أمضى أسابيع فى صناعة مربى النارنج والبرتقال لكنهم لا يربطون هذا الطقس ببيت جدة فى دمشق. أغنى لابنتى «نحن والقمر جيران» وتسأل هى عن معنى «رشرش المرجان» ــ ماذا سيعرف أولادى عن المنطقة إن رحلت فيروز؟