أزمات كثيرة تعصف بالوطن، حرائق متعددة، حوادث طرق أرضية وجوية، هجمات إرهابية، هزّات اقتصادية عنيفة.. كلها تضرب بغير سابق إنذار، لأن آلية الكشف عن المخاطر وإدارتها قبل أن تتحوّل إلى أزمات غائبة فى أغلب المواقع!
الخطر هو احتمال وقوع الضرر أو الإصابة أو الحادث أو هو كل ما يمكن أن يؤثر سلبا (أو إيجابا) فى تحقيقك لأهدافك، وطالما أنك تتعامل مع احتمال فأنت تتعامل مع مخاطر، فإذا ما تحقق ما كان متوقعا فأنت تتعامل مع أزمة وتبحث عمّن يديرها.
إدارة الأزمة أكثر كلفة وإيلاما من إدارة المخاطر، وعادة ما يخلط الرأى العام غير المتخصص بين كلتا الإدارتين، وفى ذلك تعظيم للأثر السلبى لغياب إدارة المخاطر، لأن الناس يهملونها بفعل الدعاية المرتبكة التى تنادى بضرورة إدارة المخاطر ثم تصفها بإدارة الأزمات فى سطر واحد! ولأننا ظللنا نبحث عن إدارة جيدة للأزمات عوضا عن المخاطر، فكان من الطبيعى أن تضعف قدرتنا على استيعاب جميع الأزمات والاستعداد لها، وصارت تباغتنا من كل حدب وصوب بغير طاقة على التعامل معها أو احتوائها، وبدلا من التنبؤ باحتمالات الحرائق ورصدها وإطلاق أجراس الإنذار لمقدماتها ومنع نشوبها والسيطرة عليها بصورة آلية، تفرغنا لإطفاء الحرائق بإمكانات ضعيفة حتى صرنا عاجزين عن إطفائها إلا بخسائر كبيرة، والحرائق هنا وصف ينسحب على سائر الأزمات.
***
إدارة المخاطر هى عملية مستمرة وليست ضربة حظ، وتتطلب إدراكا لضرورة اتصال أى هدف فى الوجود (حتى هدف البقاء نفسه) بعدد من التهديدات التى يجب أن تتعامل معها حتى تحقق أهدافك لا أن تتجنبها مهدرا فرصا كثيرة كان بإمكانك تحقيقها بقليل من الضوابط. هى شعبة من العلوم التى تجتمع فيها العديد من التناقضات، فهى من ناحية ثقافة لازمة مشتركة بين كثير من الناس، يمارسونها فى وجوه معايشهم اليومية بقصد وبغير قصد، لكنها من ناحية أخرى عملية منتظمة دقيقة تفتقر إليها الكثير من المؤسسات، خاصة فى دول العالم الثالث، إما لاعتبارها رفاهة لا تملكها تلك المؤسسات، أو عن جهل بطبيعة العائد المقترن بعملية إدارة المخاطر.
كذلك يزعم كثير من أصحاب الأعمال أنهم لا يفقهون شيئا عن إدارة المخاطر لا دراسة ولا تطبيقا، لكنهم فى واقع الأمر لا يستطيعون ممارسة أى نشاط بغير تداخل كبير بين عملية إدارة المخاطر وسائر العمليات التى تكوّن فى مجموعها نشاط أعمالهم. المعضلة إذن لا تكمن فى تعقيد عملية إدارة المخاطر ولا فى تكلفتها المرتفعة، لكن فى كون تلك العملية شديدة التداخل مع كثير من أنشطة البشر والمؤسسات على السواء، فلا تخرج إدارة المخاطر عن المنطق السليم لأى إنسان، لكنها لم تتطوّر كعلم وفن له خصوصيته إلا منذ أواخر القرن الماضى، بل إن أبرز أشكال تطبيقات إدارة المخاطر المؤسسية لم تظهر إلا فى عام 2004.
والعلوم أعظمها نفعا للناس ما كانت إلا تأصيلا لممارسة وتنظيما لسلوك معروف، فعلم الطب مثلا كان موجودا بين الناس قبل أن ينظّر فيه «أبقراط»، كذلك علم القانون الذى تطوّر فى كنف الإمبراطورية الرومانية، كانت له جذور فى الممارسة من قبل نشأة قانون «حامورابى» نفسه، وما علم الاقتصاد الذى يعرف بعلم الندرة إلا مجموعة من النظريات التى يحاول واضعوها اقتفاء أثر سلوك الفاعلين الاقتصاديين والمتغيرات الاقتصادية المتشابكة والموجودة بالفعل، وما سمعنا عن نظرية اقتصادية خلقت سلوكا غير موجود، أو أنشأت علاقة بين المتغيرات لم يكن لها سابقة فى الأسواق والمعاملات.
***
القدرة على إدارة المخاطر بكفاءة تحول دون التعرّض للمفاجأة، تجعلنا على استعداد لأزمات ارتفاع الأسعار ونقص المعروض من النقد الأجنبى وضرب السياحة وتراجع عائدات التجارة، تجعلنا قادرين على إدراك تقلبات الأسواق، مستعدّين لصدمات تراجع الإنتاج الزراعى لعوامل طبيعية أو بشرية. إدارة المخاطر تجعل التوسّع فى الدين العام مشروطا بالقدرة على التعامل مع مخاطر التعثّر المحتمل فى السداد وتراجع التصنيف الائتمانى لأدوات الدين الحكومية. تجعل اتخاذ قرار من شأنه زيادة رصيد الدين الخارجى بمقدار النصف بقرض واحد مع الجانب الروسى لإقامة محطة طاقة نووية، يمر بعملية دقيقة من دراسة العائدات وبدائل التمويل والاحتمالات المختلفة وآليات التعامل مع كل احتمال، ووضع الأجيال القادمة فى الحسبان.
القدرة على إدارة المخاطر المؤسسية تساعد على وقف نزيف الهدر المؤسسى فى الجهاز الحكومى خلال فترة قياسية، فوضع مستويات من الرقابة على جودة وكفاءة الأداء المؤسسى ليس عملا خارقا أو مستحيلا كما يصوّره البعض، لكنه عمل منظّم تعوزه الإرادة الجادة، ويبدأ بتمهيد بيئة العمل لوضع إطار شامل لإدارة المخاطر المؤسسية، ثم ينتقل إلى تحديد أهداف المؤسسة بمختلف فروعها وقطاعاتها عبر عملية مستقرة، مرورا بتحديد وتعريف المخاطر التى تعترض تحقيق تلك الأهداف، ثم قياسها والتنبؤ بسلوكها بغرض التعامل معها أو تقبّلها، ثم العمل على متابعة آليات وأدوات التعامل مع المخاطر وتصحيحها بصفة مستمرة.
رأينا كيف تم استهداف أبراج الكهرباء وخطوط نقل الغاز بأعمال تخريبية شبه منتظمة، دون وجود ضوابط مانعة لتكرار تلك الأعمال. تابعنا اشتعال الحرائق لأسباب متفاوتة، دون محاولة تطوير أدوات التعامل مع احتمال اندلاع حرائق جديدة. عانينا ومازلنا نعانى من حوادث القطارات التى يلقى بذنب وقوعها على مزلقانات السكك الحديدية، ورغم هذا مازالت المزلقانات غير مؤمّنة بشكل كامل!
حوادث الطرق السريعة فاقت فى تكرارها معدلات قياسية عالمية، لكن التعامل معها مازال يتم بصورة بدائية ومنفردة ودون إطار عام شامل لإدارة مخاطر الطرق. حتى إبّان اشتداد أزمة الطاقة التى عانينا خلالها من انقطاع الكهرباء بشكل يومى، فقد سعينا جاهدين لإنشاء محطات جديدة لتوليد الكهرباء وتنويع مصادر توليدها، لكننا لم نهتم بشكل كاف بالهدر القائم فى استهلاك الكهرباء الذى نراه بالعين المجردة فى صورة أعمدة إنارة موقدة طوال ساعات النهار، أو سرقة تيار كهرباء فى منتجعات ثرية تتم محاسبتها على أساس جزافى بواسطة شرطة الكهرباء، وبمبالغ زهيدة لا تتناسب مع الاستهلاك، وإنصافا لوزارة الكهرباء فإن هذا النوع الأخير من الهدر بدأت الدولة تتحرك لتداركه من خلال التوسع فى استخدام عدّادات الكهرباء الكودية سابقة الدفع، وهذا التطبيق هو صورة من صورة إدارة مخاطر سرقة التيار الكهربائى.
***
إدارة المخاطر باتت تكتسب اهتماما واسعا فى الدول والمؤسسات، وأثبتت أهميتها البالغة فى ظل أزمات مالية كبرى كان أعظمها حديثا أزمة الرهن العقارى الأمريكى فى عام 2008، والتى كان متخصصو إدارة المخاطر أبرز أبطال اكتشافها والتنبؤ بها قبل انفجار الفقاعة. البنك المركزى المصرى تبنّى مؤخرا اهتماما بتعميم ضوابط إدارة المخاطر المؤسسية على الجهاز المصرفى فى هيئة إطار شامل أوسع من مجرّد التقيّد بمقررات بازل المختلفة، لكنّ كثيرا من مؤسسات الدولة وشركات قطاع الأعمال العام تفتقر إلى تلك الضوابط، بل وإلى مفهوم إدارة المخاطر كأداة مهمة لحوكمة الدولة ومؤسساتها وهذا ما يجب العمل عليه سريعا وفى مقدمة أولويات الإصلاح.