منذ أيام صدرت عن رئاسة مجلس الوزراء فى مصر مسودة لوثيقة غاية فى الأهمية، هى وثيقة سياسة ملكية الدولة للأصول. منذ نهضة مصر الحديثة على يد «محمد على» تباينت الأدوار التى تضطلع بها مؤسسات الدولة فى الأسواق من منظم ورقيب ومشرع وضامن للحياد التنافسى إلى شريك ولاعب رئيس ومحتكر لعدد من الأنشطة، التى جرى العرف بداية أنها قاصرة على ما يعزف عنه القطاع الخاص، ثم امتدت لمختلف المجالات الاقتصادية وخاصة فى فترة هيمنة الفكر الاشتراكى على نظام الحكم فى مصر عقب سقوط الدولة العلوية.
ميراث كبير من الهيئات والمؤسسات والشركات العامة أنتجتها تلك الحقبة، أعملت فيها أيادى الدهر إهمالا وفسادا عبر السنوات مع غياب الحوكمة الناجزة وحافز الربح عن تلك المؤسسات بحكم النشأة والتكوين. لكن تلك الكيانات أفرزت أيضا العديد من نماذج النجاح، ووضعت لبنة مهمة لكثير من الصناعات التحويلية وخاصة الثقيلة التى لم يكن القطاع الخاص قادرا على خوض تجارب كبيرة وجادة لتأسيسها. كذلك ساعدت تلك الكيانات على إعداد وتأهيل الكفاءات التى عرفت طريقها إلى القطاع الخاص لاحقا، لتحقق نهضة اقتصادية حقيقية وتنشئ مدارس فنية فى مختلف المجالات.
وإذا كانت الحقبة الليبرالية وشبه الليبرالية التى انتهت بسقوط الملكية عام ١٩٥٢ قد اتضحت فيها فلسفة الدولة العازفة عن مزاحمة القطاع الخاص فى النشاط الاقتصادى الهادف إلى الربح. كما أن تغير تلك الفلسفة إلى ما يشبه النقيض إبان حكم الرئيس جمال عبدالناصر كان أيضا واضحا ومفهوما. فإن فلسفة ملكية الدولة وإدارتها للأصول لم تعد بذات الوضوح خلال فترتى حكم الرئيسين السادات ومبارك. الدور السياسى لكثير من المنشآت الاقتصادية غلب على الدور الاقتصادى والاجتماعى. كذلك تم تبرير بقاء وأحيانا توسع الدولة فى ملكية وإدارة بعض المؤسسات الفاشلة بلسان حال «إنَا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون»!
• • •
اليوم فطنت الحكومة إلى أن الفلسفة والرؤية المستقبلية لملكية الدولة لأصولها ينتابها الغموض. المستثمر الوطنى والأجنبى لا يعرف على وجه التحديد ماذا تفعل الدولة فى هذا القطاع أو ذاك! ولا يعرف ما إذا كانت تنوى البقاء فيه أو التخارج منه أو مزيدا من الاستثمار أو مزيجا من هذا وذاك! هو ببساطة لا يستطيع إتمام دراسة السوق، التى هى جزء مهم من دراسة جدوى قيامه بالاستثمار فى أى مشروع جديد أو إضافة خطوط إنتاج وتوسعات إلى مشروع قائم. الدولة منافس قوى وأحيانا تكون مزاحمتها حاسمة لقرار خروج الاستثمار الخاص. فالدولة تملك القدرة على التشريع والرقابة، بما يحقق أهداف مؤسساتها وإن تعارضت مع أهداف منافسيها. كما أنها تملك موارد كثيرة وضمانات سيادية للوصول إلى مختلف مصادر التمويل الرخيص. وهى تملك محفظة من الأراضى المجانية المرفقة لا قبل لأحد بها. الدولة أيضا تملك مؤسسات أدمنت الخسارة ومن ثم فهى قادرة على تحمل أعباء التفاوت بين تكاليف الإنتاج وأسعار بيع المنتجات، تلك التى لا يمكن أن يتحملها القطاع الخاص طويلا، فيزاح من السوق رغم كفاءته النسبية لصالح المشروع الأقل كفاءة، والذى لا يمكن لآليات السوق الحرة أن تحدد قراراته بشكل سليم.
أقدمت الحكومة إذن على خطوة مهمة استندت فيها إلى العقد الاجتماعى الذى يحكم علاقة الدولة بالمواطنين، وإلى متطلبات العدالة الاجتماعية وحماية المهمشين كما كفلها الدستور، وإلى متطلبات حوكمة المنشآت الحكومية كما وضعتها منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية منذ عام ٢٠٠٥ وإلى عدد من المعايير التى اختارتها الوزارات المعنية لتحديد قرار التخارج من النشاط خلال ثلاث سنوات، أو الاستمرار مع تثبيت أو تخفيض نسبة المشاركة لصالح القطاع الخاص، أو الاستمرار مع تثبيت أو زيادة نسبة المشاركة.
وإذا كانت الطبيعة الاستراتيجية للنشاط، واعتبارات الأمن القومى (على الرغم من كونها فضفاضة بعض الشىء) والاعتبارات المتعلقة بعزوف القطاع الخاص، وغياب التنافسية فى السوق.. تصلح جميعا كمعايير استرشادية حاسمة لفلسفة ملكية الدولة واتجاهاتها المستقبلية، فإن معيار الربحية لا يصلح فى هذا السياق، وأعتقد من الملائم حذفه من النسخة النهائية للوثيقة لعدة أسباب. أولا لأن الربحية معيار مضلل للدولة، والتى يساهم وضعها الاحتكارى فى تحديد ربحيتها الاستثنائية فى كثير من وجوه النشاط الاقتصادى. كما أن الربحية يمكن أن تكون سببا فى استمرار الدولة أو تخارجها من المشروع حتى وإن أحرزت ذات النتيجة، بمعنى أن زيادة ربحية المشروع الذى تمتلكه الدولة قد تعنى للمسئول الحكومى ضرورة الاستمرار والتوسع فى النشاط، لأن النجاح مبرر قوى للاستمرار والنمو. من ناحية أخرى فإن زيادة ربحية المشروع تعنى أنه مناسب لجذب الاستثمارات الخاصة مع تحقق جميع فرص المنافسة الكاملة، التى تنال بها أهداف المستهلك أيضا مع تزايد إقبال الاستثمارات الخاصة على النشاط، وتراجع فرص الاحتكار من قبل منتج واحد أو عدد قليل من المنتجين، ومن ثم بيع السلعة للمستهلك بسعر مناسب. معيار الربحية إذن لا يصلح لبناء فلسفة وسياسة ملكية الدولة، بل هو فى أحسن تقدير مسوغ مهم لسرعة هيكلة أو تصفية مشروع بعينه لصالح أهداف أكبر وأكثر شمولا واستدامة.
• • •
وفقا للوثيقة التى بين أيدينا، تعتزم الدولة التخارج من معظم الأنشطة الزراعية والصناعات التحويلية وتجارة التجزئة والتشييد والبناء.. وذلك مع مراعاة الاعتبارات الاجتماعية وحقوق العاملين وبعض الصدمات الطارئة مثل أزمة كوفيدــ19 والحرب الروسية ــ الأوكرانية. لكننى لاحظت فى الوثيقة تكرار تصنيف بعض القطاعات الفرعية ضمن قرارى التخارج التام والاستمرار، على الرغم من عدم وجود مشروعات متعددة للدولة فى تلك القطاعات الفرعية مثل صناعة الكوك! فإذا كان قرار التخارج جزئيا فيكفى الإشارة إلى الاستمرار والتثبيت أو تخفيض مساهمة الدولة، لأنها تجب قرار التخارج التام فى هذه الحال لكون الوثيقة عددت قطاعات رئيسة وفرعية ولم تنزل إلى مستوى المشروعات، وهنا لابد من تلافى هذا مع قطاع تجارة الجملة الذى ذكر أيضا ضمن خطتى التخارج التام والاستمرار مع إمكانية تخفيض المساهمة.
مهم أيضا أن نثنى على اهتمام الوثيقة بشرح دور الصندوق السيادى فى تحقيق أهداف تحسين إدارة وهيكلة ملكية أصول الدولة، وتنظيم مشاركتها للقطاع الخاص.. لكن لا يقل عن ذلك أهمية أن نوضح كيف ستتمكن الدولة من التخارج السلس والإيجابى من مشاركاتها المتعددة، فى ظل تردى أحوال سوق المال من الناحية التنظيمية والرقابية وبالتبعية من ناحية السيولة والكفاءة والشمول؟ وكيف يدخل المستثمر وخاصة الأجنبى إلى سوق مصنفة ضمن أسوأ أسواق المال فى العالم، علما بأن عينه دائما تكون على باب الخروج قبل أن يقدم على ضخ الاستثمارات فى أى بلد؟!
وختاما، يجب أن تكون هناك آلية مستدامة لمراجعة تلك الوثيقة الحيوية، وأن تستقل تلك الآلية عن النشاط الحكومى بحيث يختص بها مجلس أو كيان متخصص، هو فى تقديرى أهم من المجلس الأعلى المزمع إنشاؤه لمواكبة الثورة الصناعية الرابعة التى أفردت لها الوثيقة بابا يوضح دور الدولة فى هذا النوع من النشاط المتنامى، والذى أعتقد أن الخلط مازال قائما لدى البعض بين حيوية دور الدولة الداعم لنشاط ما وبين المساهمة فى ملكيته... فَلَو أن مشكلة التمويل تحول دون إقدام القطاع الخاص على الاستثمار فى مشروعات «انترنت الأشياء» مثلا، فدعم الدولة يمكن أن يكون لوچيستيا وتمويليا دون اقتطاع نصيب فى الملكية لصالح مؤسسات الدولة.
فى جميع الأحوال تلك خطوة مهمة يجب البناء عليها وإنجاحها والتمسك بخطتها بعد اعتمادها من البرلمان، حتى تسترد المصداقية وتجتذب الاستثمارات الخاصة وتتحقق أهداف التنمية.
كاتب ومحلل اقتصادى